من هاوية ألمجون إلى قمة التوبة والزهد
((بغداد في العصر العباسي))
نظرة عامة
أنتقل العرب في العصر العباسي إلى عهد اخر من التحضر والانفتاح والتقدم،فبعد إن كان الناس يسكنون في بيوت الشعر والقصب،اخذوا يتدرجون في العمران منذ القرن الأول،كقصور الامويين،حتى أصبحوا في القرن الثاني يهتمون ببناء القصور الفخمة،واصبح الأثرياء منهم يهتمون بزراعة البساتين الفواحة بالشذى،وانشاء احواض
للسباحة وحدائق للحيوان...
كما كانت تجارة الرقيق في القرنين الاول والثاني رائجة إلى أقصى حد في المجتمع الإسلامي بسبب كثرة من كانوا يُؤسرون في الحروب،مع وجود مشترين محتاجين دائماً إلى العبيد والاماء،وانتشار تجارته في كل من إيران وخراسان وما وراءهما،
حتى كان في بغداد شارع يسمى شارع الرقيق_كما يقول المسعودي_وكانت هناك بيوت عامرة بالجواري الحسان اللائى يجدن العزف على الآلات الموسيقية،وانواع الرقص والتثني،وكان منهن شاعرات،لهن شعر رقيق مثل عُريب ومقيم وجنان معشوقة ابو نواس.
كذلك انتشر الخمر والنبيذ،وأدمن عليه الكثير من الناس،وفي مقدمتهم الشعراء والمغنون الذين اكثروا من معاقرته ووصفه.وكان الشعراء يلبسون الوشي والمقطعات الحريرية والمغنون يلبسون قطوع الديباج والحز،واستكثروا من العطور وانواع الطيب الغالية ومن المسك والعنبر،وبالغ النساء، حرائر وجواري في زينتهن واناقتهن،فكانت ثيابهن من الحرير ومتخذات من الحلي والجواهر تيجانا واقراطا وخلاخيل وعقودا وقلائد.
وكان لتلك المظاهر اسباب،أهمها:_
شيوع المال،فقد كان العراق مصب أموال الخلافة الإسلامية،بحكم كونه مركز الحكم والمال( أمطري حيث شئتِ،فأن خراجك لي)هكذا كان هارون الرشيد يخاطب السحابة المثقلة بالمطر.
والمال يتبعه كل شيء في اللهو،فالرقيق والشراب
والغناء لايكون إلا حيث يكون المال،وبالنتيجة
دفع هذا الفساد الخلقي الذي كان يشيعه القبان والجواري في هذا العصر إلى شيء من الانحلال والإباحية،والعبث والزندقة، حيث الغزل المكشوف الذي لاتصان فيه كرامة الرجل والمرأة جميعاً،فقد كانت المرأة غير الحرة تبتذل ابتذالاً.
ومن جهة اخرى،كان العراق أكثر البلاد خليطاً حيث اكتضت بغداد بأصناف من البشر لم يكونوا من جنس واحد أو مدينة واحدة،او حتى دولة
واحدة،ولهؤلاء جميعاً تاريخاً في اللهو وأمعان في الحضارة،وتفنن في الترف،واتفق أن حلوا في دولة فتحت لهم ابوابها،مشجعة على امتزاج الحضارات، وتزاوج الثقافات،يحملون معهم لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم حتى طريقة لباسهم فلم تكن الدولة العباسية عربية محضة،كما كانت الخلافة الأموية. فخفتٓ قليلاً صوت العربية،وعلا صوت الاعاجم(كما نراه اليوم في دبي).
وهكذا اتسعت دائرة التمدن وانتشرت بعض القيم والأعراف التي فرضها المجتمع الجديد، من شيوع الغناء ومجالس اللهو والمجون،والغزل بالمذكر وانتشار القيان والجواري بصورة كبيرة،وقد ساعد على انتشار كل هذا،الحرية المسرفة التي منحتها الدولة العباسية للناس.
كل هذه الأشياء لم تكن من طبع العرب ولا من مألوف عاداتهم في أول امرهم،من اصطناع الترف في المأكل والملبس والاستهتار في الشرب،
والمجاهرة بما يستوجب الحد،فشاع اللهو والمجون.
وكذلك من العوامل التي ساعدت على أنتشار اللهو،ظهور مذهب المرجئة،الذي يقول:بفلسفة العفو،واساس هذا المذهب(أن الإيمان هو التصديق بالقلب وليس العمل ضرورياً فيه،وعلى هذا فليس من حق أحد أن يحكم على أنسان بالكفر والفسوق _كما يذهب الخوارج والمعتزلة_ مادام مؤمناً بالله
وبأن محمد رسول الله،فهذا الحكم من حق الله وحده يوم القيامة،وهو يصرح في كتابه العزيز بأنه يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء، كقوله سبحانه"إن الله لايغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وقوله تعالى"قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعاً".
ولاشك أن هذا فكر مخالف للصواب،فضلاً عن أنه مخالف لفقه الإسلام وتوحيده.
لقد كانت هذه الظواهر الإجتماعية منتشرة في طبقة معينة من المجتمع،لاسيما الأعاجم،الذين مر ذكرهم،والطبقات المترفة ومجموعة من الشعراء
عرفت بلهوها وفجورها،فأخذت تصورها تصويراً دقيقاً،حتى عرفوا بها وعرفت بهم،ومنهم صالح بن عبد الرحيم القدوس،ومطيع بن اياس ،ويحيى بن زياد الحارثي،ووالبة بن الحباب،وكانوا جميعاً متهمون بدينهم،والصالح منهم نجا من القتل بتهمة الزندقة.
واتفق أن اجتمع أبو نواس بهذه الطائفة،فرافقهم ونادمهم،واخذ منهم فنون اللهو والفجور حتى فافهم لهواً وشهرة،فغدت شخصيته نموذجاً للشاعر اللاهي الماجن.اما عامة الناس فكانوا بمعزل عن ذلك،بل لقد ظهر أتجاهاً للزهد في هذا العصر، هناك من يراه ردة فعل للأتجاه السابق،فعاش المجتمع بين هاتين التيارين،وكان لكل تيار جمهوره وشعراءه.
يقول شوقي ضيف_تاريخ الادب العربي_(وليس معنى ذلك أن الحياة في بغداد كانت كلها مجوناً وتهالكاً على الفجور والعهر...ومن أجل ذلك يجب إلا نبالغ في تصور موجة ألمجون والعبث حينئذ، وان نظن أن أهل بغداد جميعاً قد تخلوا عن الحياة المستقيمة الطاهرة التي يخوضها الخلق والتقاليد والدين)
وهو يخالف رأي الدكتور طه حسين الذي نرى انه كان متحاملاً على العصر العباسي،حيث قال(كان هذا العصر عصر شك ومجون،وكان عصر رياء ونفاق). ولا غرابة في ذلك،اليس هو من شكك في الشعر الجاهلي.
وإن كانت معالم التصوف لم تنضج في هذا العصر، فلسنا مع من يرى أن الزهد رد فعل طبيعي للنزعات السابقة المنحرفة وما ترتب عليها من اندفاع طائفة كبيرة من الناس ليغمروا أنفسهم في تياراتها الصاخبة،فظهرت طائفة أخرى أنكرت عليهم هذه الحياة المادية المرتبطة بالأرض ارتباطاً رخيصاً، فمضوا يقفون في وجه تياراتها ويقيمون السدود في طريقها ليقللوا من شدة اندفاعها،بل أن الزهد لم يكن وليد تلك الظروف التي يعيشها المجتمع العباسي، كان موجوداً في النفوس دائماً وابداً،الا أنه يتحرك ويشتد حسب ارتفاع نسبة الفساد الذي يعيشه المجتمع وانخفاضه،فيزداد ويقوى كلما غرق المجتمع في اللهو والمجون وانكب على الملذات، فالزهد شيء أصيل في المجتمع الإسلامي منذ أن أشرق الإسلام بانواره على النفوس فاحيأها بقيمه وأحكامه التي جعلته ديناً للبشرية جمعاء.
الى جانب كل ذلك يعتبر العصر العباسي من افضل العصور وأقواها من حيث انتشار العلم والمعرفة والانفتاح على الشعوب الأخرى...
فكان العراق يعج بالعلماء والأدباء واللغويين،كذلك ظهر في هذا العصر المتكلمون والمهتمون بالفلسفة والمنطق،كما انتشرت العلوم الدينية كالحديث والتفسير والتشريع وعلوم الكلام والاعتزال،كذلك الانساب وتعلم التجارة والتنظيم.
وكانت بغداد والبصرة والكوفة موئل الطلاب من كل بقاع الدنيا،يغدون إليها طلباً للعلم والمعرفة،
وقد خُرجُت هذه الدولة خيرة علماء الدنيا على مر الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق