- صباحكم سكّر.
- أهلاً وأكثر.
أ- أين صديقي الأكبر؟
- بابا في السّرير، ما زال يشخر.
- هل أنت كوثر؟
- أجل، ألا تتذكّر؟
- كنت أعرفك طفلة.
- الطّفلة كبُرت وأصبحت أنضر.
- ما زلتِ شقيّة. تاقت عيني لرؤيتكم وحنّ قلبي للقياكم، جهّزي القهوة، هاأنذا قادم، لا أستطيع أن أتأخّر.
بينما كان بساط الشّوق يحملني إلى صديقي المفضّل، كنت أتنشّق النّسيم العليل، العابق بأريج الياسمين وزهر المشمش والزّيزفون.
كم أنا مشتهٍ قهوة يفوح هالها عندما يفكّ الفجر الصّادق عرى قميص اللّيل الأسود، فيتبلّج الضّوء الأبيض ويليه الأحمر الجميل. كم أتوق لتلك اللّيالي، عندما كان ضوء القمر ينعكس على سطح البحيرة المجاورة لبيته فتتلألأ مياهها.
أحنّ إلى تلك الأحاديث حين كانت آمالنا وأحلامنا تبصر النّور، تحلّق حتّى تدرك النّجوم ؛ بعضها استقرّ هناك ؛ أصبح صعب المنال وغرق في المحال.
أنت، يا صديقي، على كتف العشق اتّكأت، وأنجبت، في حياتك استمتعت. أمّا أنا، فآثرتُ السّفر، كنتُ غريباً، عشت وحيداً. متعة القهوة والنّجوم والقمر، خرجت من قاموس حياتي. العطر والورد والزّهر، كلمات هجرت مفرداتي. لكنّي لن أستسلم. عدتُ. لأنّ قدميّ اشتاقتا عناق تراب مدينتي وأرصفتها، ورئتاي ترفضان غير هوائها. أثق بأنّ الزّمن مازال كريماً وأنّي سأكون سعيداً. سأمارس لغتي، سأعيش مشاعري، سأحبّ وأتزوّج.
سأركض على ضفاف النّهر، أرمي الحصى في الماء، تتشكّل دوائر، وتتلاشى، وستتلاشى معها ذكرياتي الحزينة.
سأغنّي تحت أشجار الصّفصاف السّامقة، على شدو البلابل. سأسابق الفراشات مع أطفالي وسنضحك، فتضحك الغيمات معنا وترسل بعضاً من دموعها لتمازحنا.
وصلتُ واللّهفة قد سبقتني.
فُتِحَ الباب.
شمس أشرقت. سقط قلبي من قوّة الوجيب، برق بهرني، رعد هزّني، عطر غمرني، ربيع أنعشني. صهرني الصّيف، تصبّب عرقي وألجمني. ماذا حدث؟ الفصول توالت في لمح البصر؛ أينع الكرز والتّفاح والرّمّان.
أقف مسلوب الإرادة، قبّلتني على خدّي، أخذتني بيدي، تفضّل يا عمّي.
وجه بلون حنطة بلادي، عينان بلون زيتونها وثلجها، وجنتان تفّاحيّتان، والثّغر؟ لا أجد وصفاً يليق به.
شعرها يستريح على كتفيها، خصلات منه تقفز مع خطواتها الرّشيقة وتقفز معها شهقاتي الّتي أحاول خنقها.
جلستُ مع صديقي، طال الحديث واسترسلنا، سرقنا الوقت وما شعرنا، ذكريات جميلة وأمنيات أجمل، وقلبي لم يهدأ.
فرح بلقائي وعودتي النهائيّة، استفسر عن مشاريعي المستقبليّة، عرض عليّ المساعدة، كعادته، كم هو محبّ ومخلص وشهم، لم يتغيّر.
ودّعته. لم أستطع العودة إلى منزلي. أبت ركبتاي أن تحملاني، وساقاي أن تنقلاني. جلستُ على حافّة رصيف مقابل، إلى أن استرجعت بعضاً من قواي. وصلت بيتي، أعدت حزم حقيبتي، جلستُ أفكّر في كل شيء، بانتظار الصّباح، لعلّه يحمل لي الفرج، أو أعود حيث كنت.
بدأ الصّراع بين الرّحيل والبقاء يعذّبني، تعبت، أعملت عقلي، وقرّرتُ أنّي لن أخذل صديقي. رتّبت حوائجي في الخزانة. حزمت عواطفي، ختمتُها بالشّمع الأحمر، واستودعتها الفضاء. منحت الحقيبة لأوّل عابر سبيل.
مرّت السّنوات بحلوها ومرّها.
كَبُر الأولاد، وصداقتنا مازالت على رونقها، وأصبحت بين عائلتين.
اليوم، نحتفل بزواج ابني البكر.
سرحت بأفكاري بعيداً.
صحوت على همسات زوجتي:
- ما بك؟
- لا شيء. عرس أنيق وجميل. الجميع فرحون.
- كم هو محظوظ ابننا! عروسه كاملة الأوصاف، أتمنّى لهما السّعادة. ما أجملها!
- هي نسخة- طبق الأصل- عن أمّها.
روزيت عفيف حدّاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق