وافترقا.
رفض أن يأخذ خاتمه الجميل، رفض، هو أيضاً، أن يعيد لها دمعتها الّتي مسحت بها جرحه النّازف. قد ينزف من جديد، أو قد تكون دمعة محمّلة بالدّماء فتؤلمها.
في الحقيقة كانت دموع كثيرة مثل مزنة من عين السّماء، بلّلت فيها منديلها الورقيّ، مسحتْ وعقّمتْ به جراحَه العميقة عندما وجدتْه مرميّاً على الرّصيف، تحت عمود الإضاءة وقد استند رأسه عليه، واضحاً للعيان، ثيابه أنيقة لكنّها ممزّقة في أماكن معيّنة، هل تقصّد الفاعلون الشّماتة به؟ كان مرئيّاً لكنّه مرفوضاً، تجاوزه المارّة وكأنّه حشرة، هل يخافون التّهمة أم يتجنّبون المسؤوليّة؟ هل يجهلون المشاعر الإنسانيّة أم ماتت هذه المشاعر لديهم من هول ما رأوا؟
هل كانت حادثة سرقة أم شهوانيّة مريضة أم شيء آخر؟
طلبت سيّارة الإسعاف، نقلوه إلى المشفى وهو في غيبوبة، بقيت معه.
تسكن وحيدة في بيتها، لن يفتقد غيابها أو يسأل عنها أحد، مازالت في عملها الإعلاميّ، تنشر الوعي عبر الصّحف في مقالات عن أحداث جرت في الواقع.
في مكتب الدّخول سجّلت اسمها حسب القوانين المرعيّة. لازمته في إجراء الفحوصات والتّحاليل والصّور....
خضعت لبعض التّحقيقات التي أبعدت عنها الشّبهات لكنّهم أكّدوا لها أنّه ليس من حقّها معرفة النّتائج.
كان صيداً ثميناً يثري عملها الصّحفي. هل ستكتب عنه؟ قد يقرأ المقال، ماذا سيكون ردّ فعله؟
تجلس قريباً منه وعيونها قد أثقلها السّهر.
في اليوم التّالي استعاد بعض وعيه، لكن رؤيته المضطربة جعلته يرى الجدران والأشياء مهتزّة، يغمض عينيه ليتحاشى الدّوار فتتراءى له بعض الأحداث، ينفعل، يعلو صدره وينخفض، تدور عيناه في أنحاء الغرفة ويدور في فكره سؤال: أين أنا؟ ماالذي جاء بي إلى هنا؟ خرجت من المنزل، وبعد ذلك؟ يتفوّه بكلمات لا ترابط بينها، فاقدة المعنى، لكنّ الشّرطة أمسكت منها طرف الخيط، عمّمت البلاغ وبدأت البحث.
يشعر بثقل لسانه ورغم ذلك يسألها: من أنتِ؟ أنا أعرفك.
تأمره أن يرتاح وتعده أنّها ستوضّح له ذلك فيما بعد.
من أين تأتيه الرّاحة وفي رأسه قرقعة عربة فارغة لا تكفّ عن الحركة، أو دقّ مسامير أو طاحونة تدور وتسحق كلّ مشاعره الجميلة. بين حين وآخر ينظر إلى مصدر الصّوت، صوت أنثويّ ليس غريباً عنه. تزاحمت الأفكار وضاق رأسه في احتوائها ومما زاد في الطّين بلّة تفكيره في ما جرى معه ولماذا؟
يتمعّن في وجهها، الرّؤية غير واضحة، لم يستطع تمييز ملامحها مع هذه النظّارة الغامقة اللعينة، هذا جعله يصمت ويغرق في عمق ذكرياته: من هي؟
بعد أيّام قليلة وقبل أن يتماثل تماماً للشّفاء، وبينما كان الطّبيب يملي عليه تعليمات استعمال الأدوية، انسحبت دون وداع. غادر المشفى دون أن ينسى المرور على مكتب الاستعلامات،تأكّد من الاسم فعرف العنوان.
تغيّر لون شعرها وطريقة لباسها، حتّى حديثها ورنّة صوتها طالها بعض التّغيير.
في بيتها الدّافئ من دفء مشاعرها الطّيّبة، تجلس أمام مكتبها، تقلّب أوراقاً، تقرأ بعضها، بين الفينة والأخرى تنظر عبر النّافذة إلى الأفق أو تغمض عينيها لتستطيع رؤية الماضي بشكل أوضح، إنّه ماضٍ مؤلم، عندما تفتحهما، يسيل الدّمع المنحبس بين أجفانها، تقول لنفسها: هأنذا سعيدة، أحبّ عملي وأصدقائي، الماضي ولّى، أحبّ نفسي كما أنا، الصّلح مع الذّات هو أكسير النّجاح.
نقرات خفيفة على الباب، وكأنّ القادم مقرّب من أهل البيت لكنّه يخشى الإزعاج. كان يقف مبتسماً، يحمل باقة ورد جميلة التّنسيق، كما تحبّ تماماً، دعتْه للدّخول، أمامها.
كعادتها عندما تشرب القهوة، تضع فنجاناً إضافيّاً لصاحب النّصيب. كان هو صاحب النّصيب، في القهوة فقط، ممازحاً قال لها: هل كنتِ تتوقّعين قدومي؟ الحيرة في عينيها أخبرتْه بالجواب.
بقيت جالسة، متعمّدةً قلّة الحركة أمامه. بينما كان يرشف قهوته مستمتعاً، أخذ من جيبه علبة ثمينة وقدّم لها خاتماً، هديّة. اعتذرت بلباقة عن قبوله، تجاهل رفضها وتركه. فكّرت في سرّها: لا يزال شعور الفوقيّة يسكنه.
انتهت زيارته وهو يرجوها أن تقبل هديّته المتواضعة عربون شكر وعرفان لجميلها، وأن تعيد قراءة الماضي بمنطق جديد، لأنّ الفكر تغيّر وتطوّر مع العمر، يجب ألّا يهرقان سنوات أكثر من حياة مشتركة سعيدة، حسب رأيه.
بعد عدّة أيام زارها للمرّة الثّانية، ما تزال العلبة في مكانها، على حالها، ما تزال نظرتها إليه تحمل الرّيبة والشّك في أقواله. ما الذي دفعه لتغيير موقفه؟
أكثرت من ذهابها وجيئتها أمامه بكلّ أنفة وكبرياء، يتأمّل حركتها وميلان مشيتها، يفكّر في قرارة نفسه: هذا العرج لا يعيبها كما كنت أرى!
تتفحّصه وكأنّها تقرأ على وجهه تاريخاً حديثاً معيباً سطّره بأفعال شائنة تحدث لمن يختال عنجهيّة وغروراً في ماله وشكله.
أصرّت على إعادة الخاتم، أصرّ على عدم إعادة دمعها. يأمل أن يرى دموع الفرح وبريق الحياة في عينيها. هل تصدّق ذلك؟ لماذا لم يأتِ إليها قبل الحادث؟ لم تسأله عن التّقرير النّهائي للمشفى حول حالته الصّحّيّة. بينما كانت تودّعه، دسّت، في السّر، هديّته في جيب معطفه المعلّق عند الباب. خرج، ترك الباب موارباً، ليس كما فعل في المرّة الماضية حين أحكم إغلاقه، كأنّه يخشى ألّا تفتح له في القادم من الأيّام.
كانت تستند إلى الجدار، تمسح دمعة حبّ معشّقة بخوف ذاقته مرّاً وعلقماً على يده.
صحت على صوت الباب وقد صفقه الهواء. ابتسمت، شعرت بالاطمئنان وكأنّ حجر رحى انزاح عن صدرها، شكرت الرّيح على فعلتها.
كم هو جميل أن تأخذ الرّيح قراراً مصيريّاً هامّاً مثل: سدّ الباب، أو نقل غبار الطّلع فتزهر وتثمر الحقول. قد تكون، هي، في قريب الأيّام حقلاً لريح حنون.
روزيت عفيف حدّاد