السبت، 2 ديسمبر 2017

مجلة ملتقى الشعراء والأدباء // ليتني اشرب// بقلم المتالق احمد بوقراعة

هذا هو الجزء الخامس من روايتي المخطوطة "ليتني أشرب ...بخيالك" و فيه نقف على بعض ملامح شخصية الأخ الطالح و شخصية زوج الأستاذة ونتعرّف كذلك على بعض ما يحدث في مؤسّساتنا التربوية بعد ما يصطلح عليه في تونس بثورة
الياسمين...متابعة طيّبة
لَمْ أشأْ أنْ أشغل بالي أو أُهِمَّ ذهني بما قد كَتَبه العبد الصّالح في تلك الأستاذة . كان كلّ ما رغبتُ فيه تلك اللّيلة مرضاة زوجتي فتضحكَ وتُضاحِك فيطلع النّهار الجديد صَفْوًا بِلاَ كَدَرٍ، شمسُهُ مُشرقة بلا حَرْق، ولقد رأيتها حين رأيت شمس بيتي مُقْبِلةً عَلَيَّ نورًا مُبْتَهِجًا أو نَارًا برْدًا وسلاما.
و ( عَادَ الحبلُ إلى الجرّارَة ) أيّامًا معدوداتٍ في الأسبوع تضيق فيها صُدورُنا كثيرًا وترتاح حِينًا. ونجتهد يَسيرًا و (نُكَرْكِرُ) كثيرًا. نُكَرْكِرُ في الأقسام مُبْدين اجتهادًا متظاهرين بالعزم وبالحزم وبالجدّ والصّرامة، متأبّطين العِلم لاَ نُبْدِي مِنه إلاّ الحاجة ونُنَزِّل مِنه بقدر، لوّامين للمناهج والطّرائق ولرُؤُوس التلاميذ المُسَطّحة (المَصطّكة)، فلاسفة نكون في الانتقاد، موسّعين في استقصاء العيوب، ذامّين كلّ وزارة ووزير بِمَا ذَمَّ الله به المشركين واليهود والمنافقين صَخَبٌ تضجّ مِنه قاعة الأساتذة الصّغيرة خاصّة ( قد سَلِمَ الدّهر وزال الخوف وذهبت التقيّة...). إذ أنذرت نقابة التعليم بإضرابٍ عن إطْعَام هذه الرّؤوس الصّغيرة وعنْ حَبْسِ أَلْبَانِ الصّدور المُرْضِعَةِ عن هذه الأجساد الطّريّة ذوات الزَّغَبِ الأشقر والرّيش النّاعم، فوعيدٌ بِخَنْقِ رأس كُلِّ ثَدْيٍ ونَذيرٌ بغلْقِ كُلّ باب حكمة ومعرفة وعلم...صَخَبٌ يُعاضِده ضَجيجُ التلاميذ وتهافتهم فَرَحًا بعطلة مُضافَةٍ أو بتخلّص من دروس أستاذٍ (سَفَّاحٍ).
نُكَرْكِرُ كثيرًا...ونجتهد ما لم يجتهد به متعبّدٌ قائم آناء اللّيل والنّهار، فاتحين البيوت ومستودعات السيارات والحوانيت أن يؤذّن في النّاس مؤذّن الفجر ومُغْلِقيها بعد دعاء صلوات التّراويح ما رَاحت جماعة من التّلاميذ إلاّ أقبلت أخرى تطلب دُروسًا مُدَعَّمَةً ومجتهدًا فيها اجتهادًا تظهر به نِعَمُ الدّنيا الكثيرة على بعض المدرّسين ولكنّهم كاتمون فضلها، خانقون ريحها وأثرها، غير متحدّثين بها، لا يُبدون عَدَاوَةً أو تَسَابُبًا أو مُنافسةً في رؤوس بعض التلاميذ مِمَّن لا يبخل وَلِيّ أمره بمَال يشتري به لولده نجاحًا أو تفوّقًا. ( وما أُبرّئ نفسي كما قالت امرأة العزيز...).
يبدو فضاء المعلّمين متآلِفا ومُتَجانِسا ونظيفا. السّلام والتّسليم والتحيّة والمعانقة والمصافحة والابتسام والمحادثة وحرارة الترحيب، كلّها مُجاملات ومُحَاباة وأرْدِية تستر في أغلب الأحيان عيوبا كثيرة في فئة من أعلام هذه الطّبقة الرّاقية عُقُولاً والنّظيفة أدبا وسلوكا والكانزة ذَهَبَ العلم وفِضّة المعرفة والسّالكة مَسَالك البذل والعطاء والمستأثرة باحترام النّاس، عيوبًا سُرْعان ما تظهر في اطمئنان بعض المعلّمين إلى غير أهل السّوق والبضاعة يقُصّون في غير أهل مودّتهم القصص والحكايات. فسوقُ كلّ أستاذٍ مادّته (العلميّة) التي بها يَشْتَغِلُ فإِذا زُوحِمَ فيها يَشْتَعِلُ، وبضاعته أعداد من التلاميذ أو أنفار ومجموعات قد يختصم فيها المدرّسون رِبْحًا وتجارة وكَسْبًا وصَيْدًا. فَعَلاَ مَنْ عَلاَ منهم توفيرًا وغناءً يَجُرّانِ حَسَدًا وكُرْهًا ونقمة مِمَّنْ هم دون ذلك، فولّدَ ذلك مسألة أقبح مِنها يَهمس بها البعض هَمْسًا خوْفًا من وقوع هذه الطّبقة الرّاقية علما والحادّة ثقافة في مناقضة الظاهر الباطن : ظاهر يحترم المبادئ ويزعم الائتلاف ويؤمن بحرية الفرد رأيًا وعملا ومستقرًّا، وباطن يُخفي الكُره والحقد والرّفض. فذا (ساحِلي) كارِهٌ لِمَا أصَابَ المدينة من بؤس وفساد وازدحام وضيق ومضايقة وتضييق واستغلال وسوء جرّاءَ (استيطان) النّازحيين (العُربان والأعراب) أطراف المدينة فهلك الزّرع والزيتون وتحوّلت الأطراف إلى قُرى فكاد (هذا السّاحِلي) أن يُمَّحَى ويُطْرَدَ من أرضه و (أرض أجداده السواحلية)، وذا أستاذٌ (نازِحٌ) مازال (يُڤَلْڤِلُ ڤلڤلةً غليظةً) ما يرى حقًّا لأحد دون آخر في هذا الوطن.
عيوبٌ كثيرة وِلْدَانُها مساوئ عديدة. ذا يشتكي ذَا. وذاك يحتقر ذلك خفاءً وسِرًّا، والكُلّ مغبونٌ، ضيّقُ الصّدر بالآخر، لَعّانٌ يُبْدِي مَودّة كاذبة جَهَارًا...وما فضاء المعلّمين إلاّ سرّ يسير مِمّا يُخفيه الواقع الكبير المُخيف.
في هذا الفضاء المدرسي تعرفّتُ إلى أساتذةٍ كُثّرٍ فيهم مَنْ زَكَتْ نفسه عن نفسي، وفيهم من طينة نفسي، وفيهم من قبيحها وشرورها وعيوبها ومساوئها. ولم أكن أدري حين قرأت ما كتبَ العبد الصّالح عن " الأستاذة " وعن زوجها أنّ ذلك العبد يجهل ما أعرفُهُ. فأنا أيضا أعرف الأستاذ. وكثيرًا مَا كان لِي جَارًّا في المعهد وكثيرًا ما كنّا نُدرّسُ نفس التلاميذ. ولقد جَرَتْ بيننا أحاديث متقطّعة ولكنّها كثيرة، ذلك أنّ هذا المذموم حقّا من التلاميذ قد استأنَس بِي إذ رأى خِلاّن اللهو من الأساتذة صُحبتي. فما صَاحَبه صَاحِبٌ ذو حظّ محظوظ أو بخت محفوظ إلاّ دارت عليه الدّوائر بالنّكَدِ الغليظ والهمِّ العريض فهو في النّاس منبوذٌ. وما جالَسَه جليسٌ إلاّ ارتجى أن يُنغّصَ المجلس إبليس ويُطهّرَ المكان بماء المطر والعطر النّفيس، وما سايره في الطّريق رفيق إلاّ دعى على الطّريق تُقْطَعُ وتضيقُ، فما في وجهه للفرحِ سِماتٌ كأنّه من الأحزان مقدود ومن الهموم مصنوع إلاّ أنّه في لُغته مُجازٌ مُتْقِنٌ بارعٌ متمكّنٌ ذو سعة واطّلاع ودراية بالآداب الفرنسية، متحدّث حاذق مستقدم مِنها قديمها، مستحضر بعيدها وقريبها يتلو مِمّا لا أعرفه من أشعار الرومنطيقيين ونثرهم، متكلّما في الخيال والعواطف والجمال والحبّ والتمرّد والثورة. يُحَبّبُ إلى السّامع أعمال العقلانيين ويفتح له أبوابا تُغْرِيه بالولوج إلى عالم المبادئ والقيم والسلوك والعمل.
كنتُ أجالسه أحيانًا كُلّما تيسّرَ لنا ذلك في المعهد أو خارجه. وما زلتُ أذكر مَرَحَه وضحكه حين سألني ذات يوم سؤالَ التعرّف إلى قريتي مهبط رأسي ونشأتي، إذْ سُرعان ما بَدَا له من أمري سلوك القَرويين فقلتُ من قرية مازالت تُرَبِّي الحمير والبغال، ودُورها كبيرة واسعة فيها مزابل من الغَنَم والشيَاه والبقر يرفعها الفلاّحون بعد شهور لتكون سمادًا للأرض، ومازلتُ أذكُرُ أيضا غَضَبه وانتفاضه حين سألته نفسَ ما سأَلَني فقال مِن مدينة العلم والدّين، مدينة الأدب، القيروان فَفَرَّطْتُ في أدبي وأفْرَطْتُ في سخافتي إذ قلتُ له :
- ربّما حجّي إليها صغيرا ما أهلكني وأفسدني، رافقْتُ الكِبارَ في المولد النبوي الشريف وكُنَّا عَشْرَة أو يزيدون فكانت قِسْمَتي في ثمانية أسْحَبُ الخطا لاهِثًا وراءهم في زَحْمَةٍ في أنهج شَمَمْتُ مِنْها مَاءَ الرّجال المُنْتِن العَفِنِ فعرفتُ القصْدَ وتدرّبتُ على السّبيل، وما رَاقَنِي أعوامًا كثيرة إلاّ فَمٌ عَذْبٌ صاحَ في القيروان مَوْلِدًا.
واليوم وقد تعوّدَ منّي ذلك ومثله مَا عَادَ يغضب.
كنتُ كثيرًا ما أسأله أقوال الرومنطقيين في المرأة فأسمع مِنه فيها وفي الحبّ أقوالا يَطرب لها الفؤاد فأُقابِلُها بشعر الغزل العربي فأرى ما عنده فاضلاً وأوفَر وأحسنَ وأصدق فأستزيده فيأخذه الطّرَبُ فيزيدني وأعجب بمَلَكَته فينشرح ويُوفّي وأُبْدي له بمَحْفوظِه استحْسَانًا فَكَيْلاً لِي يَكيل ولا يُنْقِصُ. عالَمٌ متوهّج من المشاعر الإنسانية النّبيلة في هذا الجسم المَهْمُومِ، وثغْرٌ مُسَبّح بالأحاسيس الرّقيقة فيه لسان ناطق بالهموم.
وحين سألته مرّة معْتذِرًا إِنْ في سؤالي حَرَجٌ :
- أرى مَا أرتْني فيكَ العِشْرة والمصاحبة، فهل ذا أثَرٌ من تأثّر بالبطل الرومنطيقي المأساوي ؟...أرى فيكَ ما أعلمه فيه...
فنظر إليّ نظرة الشقيّ التعيس وقال :
- أتعتقد اعتقاد البُسطاء أنّ الأدب نَافِذٌ فينا أمرُه فاعِلٌ فينا فعلُه ؟ أتظنّ ظَنَّ الرِّياء أنّنا آكِلوه فلابسوه فَمِنْهُ أَلْسِنَتنا ورؤوسُنا وقلوبنا وأيدينا وأرجلنا ؟ أتخال أنّ الأدب بِقلْبِه وبعقله قد يفعل فينا ذلك الفعل! مَا بلغتُ ذلك وما أحسب أنّ الأدب فينا نحن قد أُوتِيَ له ذلك. إنْ نحن إلاّ رؤوس من أصحاب اليمين وأيْدٌ وأرجل من أصحاب الشمال.
أَعْجَبَنِي ما قال، واستغربتُ مِنه ما اسْتَلَّهُ من القرآن الكريم تمثيلا، فإنّي عارف بالأستاذ وما هو من المُهتدين إلاّ يكون الله قد خَبَّأَ له في الغَيْب تحسينًا وتعْديلا.
يبدو أنّ الأستاذَ قَدْ مُسَّ في عُمْقٍ وهُمِزَ في صميم فارتدى وجهُه لَبوس الحزن كأنّما غُسِّل بقطران وقال :
- لا تَسَعُ الكُتُبُ لحظة حُزْنٍ صادقة والويل لِمَنْ امتدّت بِه اللّحظاتُ عُمُرًا أَلَمْ يَقلِ الله تعالى : " المال والبنون زينة الحياة الدّنيا ؟ ". لقد ذَهَبَتْ عنّي تلك الزينة باكِرًا. وما وجه بدون زينة ؟ كان أوّل مَنْ وَضَعَتْ تلك الزوجة ولد، فرحتُ الفَرَحَ وسُرِرْتُ السّرورَ والمسرّة، ولكنّ الفرَحَ كانَ شمْعَةً وكانت المسرّة فتيلا.
شمع يذوب وضوء يخفتُ حتّى ذابَ الشمس وانطفأَ النّور. مرض الصّبيّ وكنتُ وإيّاهَا بمدينة القيروان تَدْرُسُ وأُدَرِّسُ. وكدْتُ أُحْصِي الطّريق من القيروان إلى مدينة سوسة شِبْرًا شِبْرَا. يرقدُ الصبيُّ للمعالجة بالمستشفى فأرقُدُ ويُخَفَّفُ عنه العذابُ فأعودُ بين الألم والأمل إلى القيروان. وكاد المستشفى يكون له مُستقرًّا فآثرْتُ - وهيَ – الاستقرار بالساحل منزلا لوقت معلوم فتحوّل المعلوم إلى أَثَرٍ مكتوب.
وما كدتُ وتلك الزّوجة نرتع ولا نلعب يسْتقرُّ بنا المقام بإحدى القُرى المجاورة للمدينة حتّى قُبِضَ الوَلَدُ.
فأصابني هَمٌّ ولازمني غَمٌّ طَحَنَتْ منهما أضراسي أضراسي كَمَدًا وصَارَ رأسي مَوْقِدَا...ثمّ وَضَعَ تلك الرّأس بين يديه وأَخْفَى ذلك الوجْهَ الكالِحَ المهمومَ.
لقد أَهَمَّنِي مَا سَمِعْتُ من الأستاذ فتحرّكتْ في نفسي لأوّل مرّة في حياتي عاطفةٌ إنسانية مليئةٌ بالعطف والشفقة والتألّم وخفتُ على وَجْهِي من وجْهِه فما لألم من قضاءٍ محتومٍ على شيء مخلوق. تألّمتُ فترحّمْتُ وخَفَّفْتُ وهوّنْتُ لائِذًا بالدّين ومستعينًا بالذِّكر الحكيم ومستعيدًا قول المستسلمين الرّاضين : " تلك سُنَّةُ الله ".
عرفتُ آنذاك أنّه وزوجته قد تركا مدينة القيروان ليستقرّا بالسّاحل لذالك السّبب وعلمتُ أيْضًا عِلَّةً من عِلاّتِ بُؤسه وتألمه وشقائه وإنّا للّه وإنّا إليه راجعون وصَبْرًا آلَ ياسر...لكنّ أَمْرًا تعلّق بذهني ما أرادَ له مفارقة ولا منه ابتعادًا أو افتكاكًا : اسم الإشارة للبعيد المُرافق الزوجة وضمير الغائب الدّالّ عنها، وما أردتُ معه لذلك إشارة أو إثارة، فما كان لي في ذلك حَقٌّ أو رغبة، ووضعتُ يدي على كَتِفِهِ ومَسَّحْتُ بيدي اليُسرى الكريمة على رأسه مَسْحَ صَدَقَةٍ أرجو بها ثوابًا وقلتُ :
- لعلَّ الله مُخْلِفُك بأحسن مِنه، وهو خير الرّازقين.
فقال :
- إنّه كذلك، ولكنّه قد زيّن بيتي بِبِنْتَيْنِ فالكبرى بنت عشر وثلاثٍ وأبطَأَتْ أمّها - والله أعلم – ثَلاَثًا ثمّ جاءت الأخرى وكَفَفْتُ وكَفَّتْ.
لم أفهم هذا القول الأخير ولقد تظاهرتُ له بالفهم خشيةَ أنْ يحتقر رَأْسِي ويرى ضعف رأيي وبُؤسي.
لم يكن المقام مُبِيحًا لطول محاورة. أَأحاورُ رَجُلاً في الموت أو في رِزْقٍ إناثٍ ولكنّي استغربتُ ذلك منه استغرابًا شديدًا وهو الأستاذ وما أوْحَتْ به هذه اللّفظة : أهذا تألّم على مفقود أم نقمة على جِنْسٍ مُعْطَى وضَجّت فِيَّ أسئلة كثيرة : هل غرس الله في العَرَبِ دون سِواهم إيثار الذّكر على الأنثى ؟ وإنْ كان الجاهِلُ يُعْذَرُ فما عُذْرُ المُثقّف العارف في ذلك ؟ أيكون ذلك سَبَبًا في قِدَمِ هذه المسألة وحضورها وإحيائها ؟ أتكون العِلّة الأولى في الفصل بين الذّكر والأنثى كامِنَةً في هذه النفس العربية وكأنّها فطرة فُطِرَتْ عليها فما استطاع منها تملُّصًا أو تخلّصا ؟ أَيَعْسُرُ على هذا العربي دون غيره من خلق الله أن يَنْزَعَ ما في هذه النفس ؟ أسئلة كثيرة أيْقَظَها تَأصّل حزن بَادٍ وعميق على وَلَدٍ ذَكَرٍ قُبِضَ رضيعًا منذ سنوات عديدة؛ حُزْنٌ لمْ تستَطع ضحكة مُنتَزعةٌ انتزاعا ومُفتعلة افتعالا ومفكوكة افتكاكا أن تُخاتِل وَجْهًا فَتَنْزَعَ فيه شيئًا من الفرحِ يُحلِّلُ ويُذْهِبُ ما ارتسمَ فيه من سِمات الهمّ والنّكد.
فكان الأستاذ إذا ما قال لي : " حَيَّ على الطّلاح ". قلت : " إنّي صائم ". وإنْ قال لي : أسَمِعتَ ما قد قال ذلك "النهضاوي" السّخيف في رفيقنا المدير وهو "اليَسَاري" النّظيف ؟ ". أٌقول قول العذراء : " إنّي نذرتُ للرحمان صوما فَلَنْ أكلِّمَ اليوم إنْسيّا ". فيحاول الأستاذ أنْ يضحك أو يجتهد حتّى يَسْتَلَّ ابتسامة.
منذ ذلك الحين، كلّما اعترض الأستاذُ سبيلي أو جَمَعنِي به حَظٌّ أو قضاء مُنَزَّلٌ محتوم في المعهد أو خارجه جَرَرْتُ الحديث إلى ما أفاضت به ( الثورة التونسية ) مِنْ نِعَمِ التحرّر في الحديث ومن فيض المواضيع وانبساط كُلِّ لِسَانٍ فيها فأصير - ويصيرُ - كغيري من الأساتذة عارِفًا بكلّ شيء ومتحدّثا في كلّ أمر ومُحاوِرًا في كلّ ما غَمُضَ وأبْهم وأشكل وخصْمًا عنيدًا لمن خَالَفَنِي وعضْدا لمن حَالَفَني وساندني. أُظْهِرُ العَدَاوة والبغضاء والرفض والكُرْهَ لعين لا ترى بعينِي، وما أُبْقِي ولا أَذَرُ لِلسَانٍ خبيثٍ لا يتحدّثُ بلساني، فما ذُكِرَ وزيرٌ إلاّ استنْقَصْتُ، ولا رئيس إلاّ عِبْتُ ولا مدير إلاّ فيه قَدَحْتُ حتّى الطّاهر الشامخي المدير قد نِلْتُ مِنه ما نِلْتُ : نقابي قديم، ذِي ادّعاء كثير ويساريّ ملتزم حتّى في إطعام فمِهِ وشدِّ قلَمِهِ، محافِظ في بيتِه زِمّيتٌ مَغْلوق، متحرّرٌ خَارِجَه سابِق غير مسبوق. وحتّى أخي العبد الصّالح وهو الرّفيق الرّقيق فلمْ أكن أقبل مِنه عَيْنه أو لِسَانَه.
" يتبع"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق