الأحد، 10 يونيو 2018

مجلة ملتقى الشعراء والادباء // يوميات رمضان //24/ بقلم المتألق وليد العايش

-  يوميات رمضان - 24 -
   _________  

كأن عقارب الساعة أمست دبيباً بلا صوت , فلا هي تسير , ولا هي تتوارى من أمام ناظري أبو عامر , يومٌ من أيام نيسان , لا حرّ ولا قرّ , الجو يوحي بالجمال في هذا الصباح , لكن ليس مع الكلّ فهناك من لم يكن على هذا ( الديدبان ) ...
- لماذا تأخرتي يامرأة , ألم أقل لك بأني سأذهب باكراً إلى الدائرة ... أريد أن أنهي أموري اليوم , الرحلة ستنطلق صباح الغد .
- مازال الوقت متسعاً أمامك , العاملون لا يأتون لأعمالهم قبل التاسعة , لا تتسرع وكنْ هادئاً يا أبا عامر ...
- ذاك الرجل إن وقف بطريقي اليوم فسوف ألعن ...
لم يكمل عبارته , وربما أكملها في سرّه خجلاً من زوجته , ارتدى ثيابه , بذّةٌ سوداء , ربطةُ عنق رمادية , بعدما كان قد اقتلع شعيرات ذقنه , ورشّ العطر الفاخر على ملابسه , لم يتبقَ إلا الحذاء , جلس على أريكةٍ صفراء , بدت شاحبة في هذا اليوم , هل أصابها المرض , أم أنّ الأيام تلاعبت بساقيها , أمسك فنجان القهوة بيدٍ ترتعش , بينما اليد الأخرى تتشبث بسيجارة حمراء طويلة , كانتْ سحبُ الدُخان وكأنها متصاعدة من مدخنة مدفأة في ليلةِ يومٍ كانوني , رمى بها قبل أن تنتهي ثُمّ أشعل غيرها ...
- صبيّ قهوة يامرأة ... ( قالها بلهجة فلاحٍ مُنهك )  ...
- القهوة مفيدة في الصباح , ولكن لاتكثر منها ...
- اصمتي ... اصمتي ... هل تزوجتُ  طبيبة دونَ أن أدري ...
ضحك من كلماته المتعثرة , كما خطوات شيخٍ هَرِم , أو كما طفلٍ يتعلّم المشي لتوّه , ركنَ الفُنجان على طاولة صغيرة مدورة , قذف بسيجارته إلى اللاعودة , هل أصابت أحداً في الشارع !!! قال في نفسه ...
- يا إلهي لن نتعلم معنى الحضارة , حتى بقايا السيجارة نرميها من النافذة , وسلّة المهملات أمامنا , لن نتخلى عن عروبتنا ...
قالها مستهزأً هذه المرّة , فهل سيتصرفُ هكذا عندما تطأ قدماه أرض البلد العجوز , تساءل سّراً , احتسى حذاءه الأسود على مهلٍ , ربما أدرك بأنّ الوقت مازال               باكراً , أو أنه عاد لعادته القديمة , فلال قيمة للوقت لدى فلاح تمرُّ عليه الأيام متشابهة ...
ولجَ الطريق بحلّتهِ الجديدة ( سوف يخشى مني الموظف , فهم يخافون ممن يرتدي بذّةَ رسمية وربطة عنق ... ) لابدّ بأن أموري ستنتهي بسرعة كي ألحق مكتب تذاكر الباص المغادر إلى بيروت , لن أركب التاكسي فالمسافة قريبة والوقت مازال مُتسِعاً ...
جلست الزوجةُ وحيدة تنتظرُ قدوم جارتها لتشاركها بعض القهوة التي تركها زوجها , كانت ترتدي قميصاً شفافاً يظهر مفاتنها بقسوة , مثيرة هي تلك الريفية , بينما شعرها يستنكفُ بعدما ابتعد عنه المشط الأسود , لحظات والباب يُفتحُ وتدخل    الجارة ...
- يالك من أنثى جميلة ...
- دعكِ من هذا فأنا أخجل , أولستِ بأجمل مني ...
- كيف كانت سهرتكِ بالأمس , بالتأكيد كانت مميزة وجميلة ...
- لا وحياتك , زوجي مشغول بأوراق السفر , لم يُحرك ساكناً حتى الصباح .
القهوة تنتحر على شفاه مجمّرة , وتبدأ رحلة قراءة الفناجين الوردية اللون , ضجّة الأولاد تبدأ بالتعالي شيئاً فشيئاً , الجارة تغادر إلى اللارجعة , هكذا كانت تظنُّ يومها ...
وقف أبو عامر أمام الموظف الذي مازال في مقتبل العمر , لم يتجاوزه عقده الثالث , متأنقٌ جداً , كان يراقبهُ عن كثب وهو يوزع ابتساماته على زميلاته , وعلى بعض المراجعات الجميلات ...
- الحمد لله يبدو منفرج الأسارير اليوم , لن يؤخرني , بذّتي أجمل من بذّته , لا ذوقَ لديه ...
عندما وصله الدور , كانت قدماه تؤلمانه وجداً , فثلاثةُ ساعات من الوقوف والتوقف كفيلة بإسدال ستارة التعب على منكبي رجلٍ تجاوز الخمسين بقليل , مع أنّه يحتفظُ بكامل قوته , ناول أوراقه إلى الشاب المتأنق دون أن ينبس ببنت شفة , كان لا يريد أن يزعجه بشيء , لعلّ الأمور تسير دون أخذٍ وردّ ...  
تأفف الموظفُ قبل أن يبتدئ بتقليب الأوراق , ممسكاً بقلمه بيده اليسرى , يضع إشارة هنا , وأخرى هناك , يكرر التأفف , الوقت يمرُّ متثاقلاً كسلحفاةٍ هرمة , المؤذن يعلن صلاة الظهر ...
- انتصف النهار , ربما لن ألحق بمكتب القطع , خليها على الله ...
الشاب يحتسي رشفة قهوة كانت متبقية بقعر فنجانه السماوي , رمق الرجل بنظرات لم يعهدها من قبلُ , تمتطّى كما إبلٍ لتوها استفاقت من نومها , انسكبَ فوق كرسيه الكبير متراجعاً إلى الخلف , زفرة طويلة , تنهيدة تحتسي كل حقارات الكون , الرجلُ بدأ يلهث , قلبه يركض كما لم يفعل من قبل , حبيبات العرق تخرّ ساجدة على جبينه المحْمَر , تلعثم في كلماته ...
- ماذا , ماذا يابني ... هل هناك خطبٌ ما لاسمح الله ...
- لاتقل يابني , فأنا لي أب لا يشبهك , وأنت لست بمقامه
بلع الرجلُ لُعابه حتى كاد يبتلع لسانه , تراجع خطوة إلى الوراء , ثم عاود السؤال ...
- لا يهم , لا يهم , ما المشكلة الآن ...
ألا تعرف بأنّ أوراقك ناقصة ؟ يبدو بأنك لم تتعلم , خذها واغربْ عن وجهي ...
ورمى بحفنة الأوراق صوب الرجل , بعضها لفح وجههُ , وبعضها الآخر تناثر في أرجاء الغرفة , على الطاولة المقابلة دوّت قهقهات أنثيين جميلتين من هزليّة المشهد ...
- ياحرام , انظري إليه , انظري , يبدو ساذجاً جداً ...
- معك حق يا شادية , إنّه ساذجٌ فعلاً , لكنّهُ لطيفٌ وأنيق ...
لملم أبو عامر أوراقه , أمسكها بكلتا يديه , عيناه تبرقان كعينا نسرٍ آتٍ من صحراء بعيدة , مزّقَ الأوراق كلها دفعة واحدة , ثم اقترب من ذاك الشاب المتأنق الذي تراجع قليلا لكن الجدار استوقفه ...
- لا يمكنك التراجع أكثر ... ( قالها الجدار الأخرس ) .
- اصرخي , اطلبي الشُرطة , إنّه رجلٌ متوحش ... ( قهقهَ أبو عامر)
- الشرطة قال ... !!! ... لستُ أنا المتوحش أيُّها الوغد , أنتَ التوحش بعينه .
        صرخت الموظفة , كان كل شيءٍ قد تلاشى , العتمة تلفُ الغرفة بجدرانها السوداء , الرجل غادر بهدوء ...
       - لن نسافر يامرأة , البلد بحاجة لي , لكن الآن احزمي لي حقيبة صغيرة , ولا تنسي بعض الملابس الداخلية , سأغيبُ لفترة ...
- ما الذي حصل , كم ستغيب , لمَ ألغيت فكرة السفر ... أسئلتها لم تكن ذات جدوى , أتت على غير هدى , وبلا ترتيب , ربما فقدت صوابها , ربما أصابها مسٌّ من الجنون ...
أشعل سيجارته الحمراء لآخر مرة , بينما الباب كان يُقرعُ بقوة ... ضحك ... ثم ضحك ... ثم بكى ...
-------
وليد.ع.العايش
24/ رمضان/1439 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق