الاثنين، 11 نوفمبر 2019

مجلة ملتقى الشعراءوالأدباء....توالد غريب...بقلم المتألق احمد علي صدقي

توالد غريب

قُلْتُ لجدتي احْكِ لي قصة ما حكاها أحد غيرك. فقالت:

كان لأحدهم بيتا عجيبا قرب نهر لم يسكنه أحد قبله ولا بعده. وذات يوم هاجمته حشرات فأزعجه لسع وطنين بعوضها وذبابها ونحلها وزنبورها، وعدد من حشرات أخرى قظت مضجعه.. ولما استفرغوا صبره وبلغ جهده قام فسد باب البيت وأحكم سده، ثم ضخ فيه مبيدا وانصرف عنه وترك ذلك المبيد ليفعل فعلته في تلك المخلوقات، وخرج هائما على وجهه... خلخل المبيد أرواح تلك المخلوقات وضيق أنفاسها فمات من مات وما تبقى منهم إلا نحلة واحدة وزنبور واحد وبعض الذبابات.. قاومت الحياة الموت فانتصرت الحياة في الأخير.. لكن الحياة تتطلب مجهودا آخر وهو اطعام الجسد لتستمر وتتقوى لبقائها.. لم يكن بالبيت ما يعزز هذا.. بيت به فراش نوم نقي و مزهرية وحيدة بها زهور لا زالت طرية... جاعت النحلة فرأت الزهور فتوجهت نحوها وحطت عليها علها تفرز لها شيئا من رحيقها تقطفه لسد حاجة بطنها. لكن عندما رأت نقاوة المكان وعرفت أن ليس فيه للذباب ولا للزنبور مصدرا لأكل، تألمت شفقة عليهم.. فاضطرت الى التفكير في اطعامهم و اقتسام ما ستصنعه من عسل من هذا الرحيق القليل. أمست النحلة تطعم الذبابات والزنبور.. مرت أيام تغدى فيها الزنبور و الذبابات بالعسل.. فأخذوا من طبع النحلة و أصبحوا يقاربونها في الجبلات.. يحطون على المزهرية.. يستنشقون رحيق الزهور.. ويجتمعون حول طاولة العسل للأكل.. لكن مع طول الوقت دبلت تلك الورود التي بالمزهرية وذهبت نضارتها ودب فيها اليبس، فلم يعد هناك مصدر لصنع العسل واطعام القوم. تأزم الأمر.. تمسكت تلك المخلوقات ببعضها البعض.. أخلصوا الود بينهم وحلت صداقة لم يعهدوا بها أبدا بينهم كمخلوقات مختلفة..

ولكنها الظروف، وقد قال الشاعر:

دعوى الصداقةِ في الرخاءِ كثيرةٌ ... بل في الشدائدِ يُعْرَفُ الاخوانُ...

اعتصر الْهَمُّ القومَ فاجتمعوا للبحث عن مخرج.. تقابلوا وتحدثوا حتى طال بهم الحديث وتحاجوا وبرهن كل واحد منهم بالحجة والدليل أنه مظلوم و لا يستحق ما وقع فيه.. دخلوا في أمور سياسة ونقاشات حادة.. ركبوا غرورهم واستولت عليهم الأنانية فنسوا وضعهم.. قالت ذبابة ضاربة في العمر:

- أنتم معشر الزنابير خطيرون. وتكمن خطورتكم في أنكم تحقنون سمومكم في المخلوقات وتعيدون الكرة ولا تموتون كالنحل. أجابها الزنبور:

وأنتم أيتها الذبابة تهاجمون البشر وتنهشون طعامهم وتنقلون إليه العدوى وتستضعفون صغارهم الذين غير قادرين حتى على أن يدلوا الكبار على ما يؤلمهم. تابعت الذبابة حديثها والنحلة صامتة مندهشة لما أصاب القوم من تكبر وقالت للنحلة:

أما أنتم معشر النحل فمتملقون. تتعاطفون مع الأغنياء تسكون حدائق قصورهم وتتعدون على الفقراء. تسرقون من طعامهم السكريات تهدونها عسلا للأغنياء وتمدون الفقراء وأبناءهم بقرصكم الأليم. انتاجاتكم سلع غالية ليست في متناول الجميع. سلعكم لا يقدر على اقتناءها إلا الغني. قالت النحلة وقد غاظها كلام الذبابة:

- نحن لا ننتج عسلا للغني ولا للفقير.. نحن ننتجه لغدائنا ولكن الاستبداد و التفرد استغلنا كما استغل الفقير. أردفت الذبابة قائلة:

- بل هذا جبلة فيكم. ومن طبعكم التفاخر والهجرة لحدائق الأغنياء والمكوث فيها.. اعلمي أن من بين كل المخلوقات نحن الحشرة الوحيدة التي تمارس الديمقراطية في هذا الكون. فنحن لا نفرق بين غني ولا فقير. نحط على كل الوجوه. نفترس كل العيون. نأكل الطيب والقبيح.. أمنكم من يفعل هذا؟ قالت النحلة:

- أتحسبين هذا منكم ابداعا أم احسانا أم عطاء أم ماذا؟ قالت الذبابة:

- أحسبيه ما شئت، اعيدها فأنتم معشر النحل اكبر المتملقين تعيشون فقط عند الأغنياء . تزودونهم بعسلكم وبلسعاتكم تزعجون الفقراء و تؤدونهم بسمومكم. نحن الذباب رغم ما نوصف به من رجس فإننا فينا دواء، فإن سقطت إحدانا في مشروب ما على الشارب إلا غطسها فيه ويصبح له فيه منها شفاء.. فهل من حشرات بهذه الخاصية؟ لا أظن.. الديموقراطية عندنا هي المبدأ قبل كل شيء.. كلكم عندنا من الصاغرين وكل منكم لا تهمه إلا نفسه.. نعرفكم و نعرف مبادئكم.. كل الاجناس تدعي فعل الخير و إرادة الصالح العام ولكن أقول لكم هل الصراصير الفاشية التي لا تدخل إلا بيوت الفقراء و تهجر بيوت الاغنياء تريد الصالح العم؟.. وهل العقارب الديكتاتورية التي تقرص كل من اقترب منهما تريد الصالح العام؟. وهل البعوض العنصري الذي يعيش على دماء الشعوب الإفريقية ويترك الشعوب الغربية يريد الصالح العام؟. قالت النحلة وهي تتصنع الغباء:

- صدقت وما كنت أعرف هذا من قبل.. ولكن لماذا هذه الأوصاف الدنيئة الآن؟ نحن في  ازمة، والحل هو الالتحام والوئام لنحمي أنفسنا من الضرر.. فهذه الاحتجاجات لا محل لها بيننا اليوم.. هذه تعريفات سياسية تنفر أجناسنا بعضها من البعض.. اليوم، وفي هذه الحالة المزرية التي تعانقنا ونعانقها كرها، وجب البحث مخرج من المأزق و إيجاد منفعة من بين ثنايا هذه الورطة...

كلام كرسته النحلة في عقول هؤلاء المخلوقات فوثق عرى الصداقة المنفعية بينهم فاصبحوا متشبثتين بعضهم بعض..

بعد مرور أيام وهم في مجاعة قاسية، حضر صاحب البيت وفتح الباب فطار الكل خارجه. تنفسوا الصعداء مما أصابهم من غم و كدر طيلة مكوتهم في هذا البيت المسدود. هذا السجن الذي دبل فيه الورد ولم يعد فيه للأكل سبيل. تعلم الجميع من النحلة الكثير. تعلموا النظافة و الابتعاد عن الأوساخ واللباقة والتواصل، فتمدنوا وتحضروا و...

حلقوا بعيدا، وهم في سمائهم، اذا بالنحلة تدعوهم لزيارة خليتها.. حبذوا الفكرة وساروا نحو الخلية الذي كانت تُعَسِّلُ فيها النحلة في الجبل...

فرح النحل بعودة صاحبتهم و رفقاءها فأخبروا بهم الملكة، فدعتهم للدخول لبيتها، وأمرت النحل الخادم بإحضار كميات كثيرة من الهلام الملكي ومن العسل للاعتناء بضيوفها الذين قد أنهكوا وهم يبحثون عما يسدون به رمقهم..

أكلوا وانتعشوا ومرت أيام فأصبح نصيبهم من العيش في الخلية كباقي نصيب كل سكان الخلية.. لكن خليقتهم وطبائعهم حثتهم على الخيانة فتآمر الزنبور مع الذبابات على قتل النحلة التي اطعمتهم وأتت بهم لهذا الخلية. لسعها الزنبور لسعة قتلتها والذباب ينظر للجريمة وينتظر الغنيمة الباردة. بعد جريمتهم حوطوا النحلة الملكة بحائط منيع حتى لا تتصل بالخادمات فأصبح الزنبور هو الوسيط الوحيد بين الملكة والنحل الخادم. أمر الكل بأن يلزم مكانه وأصدر قانونا للعاملات يخدم مصلحته ومصلحة الذبابات.. أمست الملكة لا ترى أحدا ولا يراها أحد.. فاصبحت خليتها كبركة ماء عذب تسكنها التماسيح فلا أحد يستطيع الوصول اليها.. مع الوقت تناسل الذباب في الخلية مع الزنبور فتوالد جنس من المخلوقات ما امتثل لأبويه ولا للزنبور ولا للملكة. همه اشباع بطنه والاستجابة لرغبات شهواته وعندما كبر اصبح آفة على الخلية.. أكلت الأخضر واليابس.. قضت على كل شيء. أرغمت خادمات النحل، بقرارات متعسفة، على الزيادة في الانتاج. فأصبحن يعملن صباح مساء ولا شيء من التحسن يظهر من ذلك على الخلية.. استمر الحال هكذا حتى خارت صحة الكل.. فمات النحل وبات الذباب في طور الانقراض وما عاش الا النسل. أخذ هذا الجنس من المخلوقات يلتهم ما بالخلية من عسل ظانا منه أن ما يحتويه المكان لن ينقضي أبدا..

عمت الفوضى وانعدم العسل.. واصبحت الخلية مجرد سكن ذو هندسة رائعة لكن لا انتاج فيها ولا عمل.. فالكل اصبح يأخذ اغراضه من خارجها.. فلم تعد الخلية ولا ما يبنى من الخليات الأخرى إلا للتناسل والسكن والاستجمام.. فلا عمل ولا انتاج ولا وئام ولا تفكير، بل فوضى داخل وخارج الخلية.. مخلوقات ثائرة تطنطن وتجري ولا واحدة منها تسمع لأختها.

قالت جدتي وهكذا اصبحنا نرى خليات الزنابير في كل مكان.. جميلة من الخارج ولكن لا أحد يُعَسِّلُ فيه...

أحمد علي صدقي من المغرب

في يوم 10/11/2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق