جدلية الحزن
في الشعر العراقي المعاصر
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
(في اليوم الذي وزعت فيه الأنصبة كانت الحصة المخصصة لي العذاب والألم)
شاعر سومري مجهول
من كتاب "الواح سومر"
صموئيل كريمر
الحزن حالة نفسية أنفعالية بشرية، توصف بألم الشعور باليأس والإحباط والعجز. والحزن في اللغة (مصدر: الفعل حَزِنَ يحزَن حُزْنًا وحَزَنًا، فهو حزين ويُعدَّى بالهمزة، فيقال: أحزنته، أي: جعلته حزينًا .وأصل الحُزْن: غِلَظُ الهَمِّ، مأخوذ من الحَزَن، بفتحتين، وهو ما غلُظ من الأرض، وخشُن في النفس، لما يحصل فيها من الهَمِّ)، "لسان العرب". أما أصطلاحاً، فهو (ردة لفعل غير متوقع يسبب لصاحبه الشعور بالبؤس، ويجعله كئيباً انطوائياً).
تعمق الحزن عند العراقيين قديماً، فالميثولوجيا السومرية ونصوصها الدينية، طابعها الحزن، فالسومريون، كانت لهم مواكب للحزن في مواسم معينة ينوحون فيها ويبكون في طقوس دينية معينة، فقد (عرف في بلاد الرافدين (قارئ العزاء) الكاهن النَّداب (كالو) ومعناه الحرفي "الذي أكل البكاء بصره")، قاسم الشواف، ديوان الأساطير،ج2، ص62. أضافة الى أن أول تراجيديا على أرض العراق هي تراجيديا (كلكامش) وصديقه (انكيدو)، الذي مات بين أحضان (كلكامش) وبكاه سبعة أيام وسبع ليالٍ وهو ينشد:
(المسالك التي سلكتها في غابات الأرز وعسى ألا يبطل النواح عليك ليل نهار، ليندبن عليك نهر (أولا) الذي مشينا على ضفافه، وليبكيك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه، لينح عليك محاربو (أوروك) ذات الأسوار، من أجل أنكيد، خلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكالي)، "طه باقر، ملحمة كلكامش، ص 67".
إذاً الحزن تعبير صادق، وصفة ملازمة، لشخصية الفرد العراقي، وطابع بنيوي في تركيبته النفسية، وعامل مؤثر فيه، ونتاج طبيعي لتراكمات عان منها، ويعاني إلى يومنا هذا. فهو مسكون بأحزانه الممتدة والمتلاحقة التي لا تنتهي، فالعراقيون (يرضعون الحزن مع الحليب)، على حد تعبير الشاعر "عريان السيد خلف"، فهو زادهم اليومي، يتجرعون مرارته، ليكون عوناً لهم على تجرع مرارة الحياة، مثلما تجرعته الأم العراقية التي جعلت من أبنها كائناً حزيناً، تنقل الحزن له بصوتها الشجي، وفي ساعات خلوتها، تنثال عليه بالحزن مع (الدللول يالولد يبني). فالمجتمع العراقي يحفل بمشاعر الحزن أكثر من مشاعر الفرح، حتى تجذر في السلوك اليومي للفرد العراقي كميراث تاريخي، فأصبح وريث شرعي للحزن الذي كُتب في أساطير سومر. هذا التجذر، تحول من حالة أنفعالية، إلى حالة تكاد أن تكون (مرضية)، وسمة مصحوبة بالشجن، تعبر عن عدم قدرة العراقي في تجسيد روح التفائل. وأكثر دلائل هذا الحزن في مدن الجنوب العراقي السومري، النابع من طبيعة الظروف التي مر بها، التي رسخت عنده هذه البكائية والشعور بالحزن. وقد أوجز ذلك الشاعر المبدع "مظفر النواب" (ثيمة الحزن) في صورة شعرية إبداعية رائعة، من خلال جملته الشعرية (مو حزن لكن حزين). وهو القائل:
(ما أظن أرضاً رويت بالدم والشمس كأرض بلادي/ وما أظن حزناً كحزن الناس فيها/ ولكنها بلادي.. لا أبكي من القلب/ ولا أضحك من القلب/ ولا أموت من القلب.. إلا فيها..).
دالة الحزن نلاحظها وبوضوح محور أساسي في أغلب قصائد الشعراء المحدثين، وأبرز المضامين الشعرية التي حفلت بها دواوينهم الشعرية، ف(نزعة الحزن في شعرنا المعاصر قد إضافت إلى التجربة الشعرية بعامة آفاقا جديدة زادتها ثراء وخصب ... وولدت طاقات تعبيرية لها اصالتها وقيمتها )، "عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص 352، 354".
ولا شك أن ظاهرة الحزن في الشعر العراقي الحديث والمعاصر، شكلت علامة فارقة به، فجدلية الحزن في الشعر العراقي المعاصر، نتاج لواقع أجتماعي يحياه الشاعر. حتى أصبح المحرك الأساس في عملية إبداعه الشعري التي لا تتم إلا في معادلة الحزن، فكان للبيئة العراقية الجنوبية، الأثر في إثراء المعجم الشعري للشاعر، ولازمة لإبداعه الشعري، عبر عنه بتراكيب لغوية، وصور حسية، ورموز فنية تجسد واقعه وتصور نفسيته، فعشش عنده الحزن، حتى أُتخذ كهوية، وأنتماء. فنراه يستنشق ويموسق الحزن شعراً، ويحترق وهو يحمل فوق كاهله الفواجع، والهموم، والأحزان، التي ملأت أرجاء روحه. لقد (استفاضت نغمة الحزن حتَّى صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن أنْ يُقال إنَّ الحزن قد صار محورًا أساسيًا في معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد)، "الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية، د. عز الدين إسماعيل، ص302". فشكلت مركز أستقطاب وسمة مستديمة بارزة في نصوص الشعرية العراقية المعاصرة، حتى أضحت إيقاع أستوطن في نفوس وقلوب الشعراء العراقيين، المنقوعة بالحزن المركب، فهذه السمة ترسم لنا رؤية وجودية مستندة الى المعاناة والألام التي يعانيها المجتمع العراقي بمجمله. فالشاعر لسان حال مجتمعه يحمل كل آلامه وحزنه، فهو ذاكرة المجتمع الحية، فلا نجد تعبيراً صادقاً مكثفاً عن الحزن أنعكس في النصوص الشعرية مثل ما يعبر عنه، فهو أشد تعبيراً عن واقع الإنسان، هناك من يرى أن الحزن أحد العوامل التي تحرض على الإبداع الشعري (فالقصائد لا تولد من تحقيق ورضا وإنما تولد من الحزن والإخفاق والبحث الذي لا يُغني)، أحمد عبد المعطي حجازي الشاعر المعاصر، د. مصطفى ناصف، ص90 . فالنص الشعري العراقي يفيض حزناً وبكائية في لغته وعاطفته وتكوينه الوجداني. ولم يكن ترفاً فكرياً، بل ينطلق من الأعماق، ويتعامل مع الواقع تعاملاً وجودیاً، ووعي شعري وإحساس بالوجع الإنساني. ولا تختلف إرهاصاته في كتابة النص الشعري، والأحساس به عن آلام مخاض الولادة.
فالشعراء تتباين دوافع حزنهم بإختلاف شخصياتهم، وتكوينهم النفسي. ولكن، الى متى يحمل الإنسان والشاعر العراقي هذا الألم والحزن في كينونته ويخطه في أبجدياته؟ أما من ضوء في نهاية نفق الحزن المعتم؟.
يندر أن تجد شاعراً معاصراً یخلو شعره من مضمون الحزن، ومسببات الحزن عند الشعراء متباينة، منها عاطفية أو سياسية أو أجتماعية، أو دينية. فالحزن (خبز الشعراء) كما قيل، ومنهل إبداعهم الشعري، أما الفرح والتفاؤل فهو أستثناء. فلا يستطيعون ان يقدموا الفرح، أو الإحساس به. وصدق الشاعر "محمد الماغوط" حين يقول؛ (ليس الفرح مهنتنا). فمساحة الحزن في الشعر العراقي أكبر بكثير من مساحة الفرح، لان روح الشاعر سيطرت عليه مسحة الحزن. فذاته مزدحمة بالمشاعر والأحاسيس المتناقضة التي تشكل رؤيته للحياة والوجود. (لذا تجد العراقي حتى في أسعد لحظات الزمن الجميل وفي قمة ترف الحياة التي يعيشها لا يطربه ويثلج صدره غير الشجن)، د. رحيم هادي الشمخي، سمة الحزن في الأغنية العراقية. وهذا المعنى أكده الفيلسوف والكاتب الروماني إميل سيوران (1911-1995) حين قال:( على الإنسان ان لا ينبش في الذاكرة إذا أراد ان يكون سعيداً)، أما العراقي فحزنه حزناً جمعياً إنسانياً، لا يريد أن يغادر ذاكرته الحزينة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق