(( حِراثَةُ العُقول)
اليوم التقيت بجدي الذي توفي منذ مئات السنين....
(( بينما كنت في الأرض وأنا مستمتع بمنظرها وهي محروثة ونظيفة جلستُ تحت شجرة زيتون أتفيأ بظلها وكنتُ أراقب النار وهي تداعب إبريقي الأسود وأنا أتوق لأشرب كأساً من المتة الذي يعادل عندي كل مشروبات الدنيا بل لا أبادلها به.
رائحة دخان النار التي أصبحت ممزوجة بالماء المغلي وتعطيه طعماً يعجز البيان عن وصفه.
لفافة التبغ بيدي وهي تتوق للنار لتولعها وتنفث سمومها في جسدي الذي اعتاد عليها وصارت جزءاً من تركيبته الدموية.
الكأس جاهزٌ للبدء بمعركة المتة الحامية الوطيس والذي سيكون الخيالُ فيها منتصراً والواقع مهزوماً
بعد لحظات قليلة ابتدأ الحوار بيني وبين لفافة التبغ والإبريق بمائه الذي صار يغلي والكأس والمصاصة.
وقبل أن أبدأ بشرب المتة وإذ بصوت يقول لي :
_ السلام عليكم
_ وعليكم السلام ( قلتها وشعر رأسي توقف من الرعب والخوف)
لا أرى أحداً أمامي وما كنت متوقعاً وجود أحد.
التفت خلفي وإذ بعجوز لم أره في حياتي
اقترب مني وقبلني على خدي قبلة شعرت بحنان الكون صار ملكاً لي.
_ من أنت أيها الشيخ؟
_ (يبدو حزيناً وهو يتكئ على عصاه)
أنا جدك يا حفيدي.
حاولتُ الهروب فأمسكني وقال لي :
_ لا تخف
زيارتي قصيرة.
_ أين كنت يا جدي؟
ومالي أراك حزيناً والدموع تنسكب من عينيك؟
_ كنتُ في جولةٍ قصيرةٍ على أحفادي وأهلي وناسي الذين تركتهم منذ رحيلي
ويا ليتها ما كانت من جولة.
_ تفضل يا جَدِّي تنشرب متة.
وبصوته المرتجف قال لي :
_ لقد كرهتُ عالمكم هذا وما توقعتكم كما رأيت
جئتُ لأجيبك عن سؤال واحد فقط تسأله لي ولن أجيبك عن سؤالين.
فَكِّر يا بني ماذا ستسألني؟
بعد لحظة صمت قلت له :
_ يا جَدِّي
ليش صاير فينا هيك والناس مثل الوحوش بتاكل بعضها؟
_ يا جَدِّي
بأيامنا كُنَّا نحرثُ الأرضَ والعقول.
في زمنكم هذا
حِراثَةُ الأرضِ كما يقول المثل ( هات إيدك والحقني)
أما حراثة العقول ( وقبل أن يجيبني أَجْهَشَ بالبكاء) وبعد لحظات مسح دموعه وتابع قائلاً :
حراثة العقول
ما بقا فيه حدا يحرث هالعقول
وإذا انْوَجَد ما بيسترجي يحرُث
وإذا راح حتى يحرُث بيكسروا له أدوات الحراثة
ياجدِّي
عقولكم صارت غالبيتها بور
وتصَحَّرِت
وماء غيث القيم والأخلاق ما بتقدر تغور فيها
الله يكون بعونكم يا جدِّي.
بخاطرك يا ابني)) .
غادرني والدموع تبلل لحيته وتقطر منها.
انتهت
ومنذ رحيل جدي عني وأنا ما زلتُ أفكر بكلامه
حِراثَةُ العقول!!؟؟
متى نستطيع إعادة حراثتها من جديد؟
من المسؤول عن تَصَحُّرِ هذه العقول؟
سليمان سليمان ( أبو محمد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق