الأحد، 27 مايو 2018

مجلة ملتقى الشعراء والادباء // زغب يطير // بقام المتالق حسين عجيل الساعدي

الصورة الذهنية في ديوان الشاعر 
          علاء الدين الحمداني
               (زغبٌ ويطير)
     بقلم/ حسين عجيل الساعدي
               
للشعر مداراته وآفاقه الفنية والإبداعية تؤثر وتتأثر بذات الشاعر وما يحيط به، فتشكل معادل موضوعي بين الذات والأفصاح الشعوري الذي يعتري الشاعر من جانب، وعالمه المحسوس من جانب أخر، فيفرغ ما في داخل وعيه من شحنات وأنفعالات نفسية، وعاطفية، يتخطى بها حدود النفس الى حدود اللغة، فيعيد تشكيلها وفق نظرة الباحث المنقب عن نظم لغوية بعيدة عن أدلجة الواقع وأفتراضاته، في سياق شعري جديد، بعد أن دفع باللغة الى التشظي والأنتقال الى أساليب شعرية جديدة ينقل بها النص الشعري من حالة الى حالة أخرى، ومن ثم ينأى بها بعيداً عن الأساليب والقوالب الشعرية الجاهزة المتقادمة، بدءً بالشكل والمضمون وأنتهاءً بمدارس الحداثة الأدبية ونزعاتها النقدية (التعبيرية، والرمزية، والتجريدية، وو..) ومن ثم الأنطلاق بها الى ما بعد الحداثة، ودراساتها التي دأبت على البحث في الجوانب الجمالية والفنية للنص الشعري المعاصر، وفق أعراف نقدية أحداثوية . والساحة المعاصرة لا تخلو من ظهور أطر نقدية إبداعية متقدمة، تملك خاصية التحليل والرؤية في قراءة النص، متمردة على الأعراف النقدية التقليدية، وهذه الأطر ظهر وجودها في دراسات رصينة قدمها نقاد أستطاعوا أن يكونوا منهجية عابرة للأعراف النقدية التقليدية في سبر أغوار النص، والكشف عن المرئي واللا مرئي في بواطنه، وأعادة قراءته وفق رؤى أحداثوية متطورة، ساعدت الناقد في أستبطان وأستنطاق النص الشعري . هذه المنهجية قد تجلت في كتابات بعض النقاد العرب، على سبيل المثال لا الحصر، الناقد العراقي "محمد شنيشل الربيعي" في كتاباته ومباحثه النقدية والابداعية، وكتابات الناقد المغربي الدكتور "مصطفى بلعوام"، وهذا متأتي لما أظهره بعض الشعراء في نصوصهم، من أنتقالات تتسم بغرائبية الصورة الشعرية وتفردها، وقد تكون، غير منسجمة مع الواقع الى حد أن أرتدت جلباب اللا معقول، وأخذت منحى سريالي، لم تكن واضحة لدى المتلقي إلا في ذهن من أنتجها، أو يفهمها متلقي على درجة من الوعي والمعرفة، هذا المنحى لجأ إليه شعراء المدرسة الرمزية والسريالية في التعبير عن أنفعالهم النفسي، فالشاعر (حين يستخدم الكلمات الحسية بشتّى أنواعها لا يقصد أن يمثّل بها صورة لحشد معين من المحسوسات، بل الحقيقة أنّه يقصد بها تمثيل تصور ذهني معين له دلالته وقيمته الشعورية) عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص13٢، ومن هؤلاء الشعراء على سبيل المثال لا الحصر الشاعر "جواد الشلال" والشاعر "جاسم آل حمد الجياشي" والشاعر "عبد الجبار الفياض" والشاعر "أمين جياد"، أضافة الى شاعرنا "علاء الدين الحمداني" وغيرهم، فهم يشتغلون على تكثيف المعنى في لغة ذهنية، لا يخشون من تشتت ذهن المتلقي عند قراءة نصوصهم، اذا توفرت القراءة الواعية لنصوصهم، لان النص مبني على التفكيك، يكفي ان يفكك المتلقي عناصر النص، فيعثر على دواخله وأستكشاف اللامرئي فيه، من خلال الأستيعاب والإدراك الواعي لمعنى النص، وهذا يعني هناك متغيرات طرأت على النص الشعري في تدشين مرحلة متقدمة في كتابته، ومن هذه المتغيرات الصورة الشعرية المتسمة بذهنية عقلية ورمزية سريالية مركبة. أضافة الى الجوانب الأخرى المكملة لهذه الصورة والمتعارف عليها من أشكال بلاغية من تشبيه وأستعارة ومجاز وأنزياح .
في الشعر المعاصر (لا بد للكلمة من أن تعلو على ذاتها، أن تزخر بأكثر مما تعد به وأن تشير إلى أكثر مما نقول، فليس الكلمة في الشعر تقديماً دقيقاً أو عرضاً محكماً لفكرة أو موضوع ما، ولكنها رحم لخصب جديد) تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ص24. فاللغة في النص الشعري المعاصر هي لغة أشارية ذات محمولات ومدلولات متجددة ومتعددة، فهي أنعكاس لأزمة الإنسان المعاصر وأرهاصات الواقع المعاش . ويمكن لهذه اللغة أن تعطي القدرة للمتلقي أن يعيش الأجواء النفسية والذهنية المدهشة للنص، ونقله الى عوالم الشاعر النفسية، ومكامن النص الجمالية، الذي يخضع الى الكثير من الدلالات، متخذة أشكال متباينة، منها البلاغية والعقلية والنفسية، وهذه الدلالات خاضعة لمدارك المتلقي وفهمه للنص . نحن نقرأ في بعض الاحيان نصوصاً شعريةً متطرفةً في ذهنيتها وغموضها ورمزيتها، وصعوبة أن تتضح ملامح صورها الشعرية، وهذا الغموض قد نعزوه الى طبيعة الحياة وتعقيداتها وغموض مساراتها، التي تجعل من النص الشعري الذهني نصاً طارداً للمتلقي، نتيجة هيمنة النزعة الذهنية عليه، والمبالغة في صناعة الصورة البلاغية، أضافة الى محدودية وعي المتلقي في اقتناص المعنى من الصورة الشعرية. لذلك ينبغي أن يكون هناك توافق بين ذهنية المتلقي والذهنية التي أنتجت النص، لان النص الذهني لايمكن الوصول إليه، سوى شعراء الإبداع، الذين ينقلون اللغة من حالة الوضوح الى حالة الغموض والتأويل التي لا تصرح بشيء بسهولة، هذا النوع من النصوص لا يمنح نفسه لكل متلقي . لأنه ينتج تعددية في التأويل والأختلاف في الرؤى، لايمكن حصرها في دلالة ومعنى واحد، بل يترك المجال واسعاً أمام المتلقي في أستخراج دلالات ورؤى النص . يصف الاديب "جبرا إبراهيم جبرا" الصور الشعرية في الشعر الحديث بأنها (صـور غير مألوفة توحي بحالات ذهنية توصف بالغموض، وهـي تتصـل بالهزة النفسية أو الذهنية وبالتالي بالدهشة والعجب)، هذه الصور الذهنية لها مداخيل فلسفية وعقلية وسايكولوجية تشكلت وفق خيال واسع وتراكم نفسي ومعرفي وذاكرة مختزنة ومكتنزة بالذكريات، لأنها هذه الصورة من وجهة نظر علم النفس (إعادة إنتاج عقلية لتجربة عاطفية أو إدراكية ماضية ليست بالضرورة أن تكون بصرية).‏ هذا يعني أداة لأستكشاف النص، وتحول ملحوظ في تغيير نمطية الصورة الشعرية من الحالة الحسية الى الحالة الذهنية، أضافة الى أنها تعكس التجربة الإبداعية للشاعر وقدرته على التحكم بالبنية اللغوية والفنية للنص وفي خلق الدهشة عند المتلقي، من خلالها يمكن للشاعر أن يكون صور ذهنية، تأخذ أشكالاً رمزية ونفسية، وتنقل الصورة الى المتلقي بشكل لا تستطيع اللغة أن تنقله، وتطويعها دون الأرتكاز على الإيحاء والحدس في نقل ما وراء الواقع، لأن الصورة الذهنية هي ( الصورة التي يكون للذهن الأثر الأكبر في رسم أبعادها، فهو الذي يقوم ببناء علاقات جديدة بين الأشياء تمنح الصورة إيحاءً أو إثارةً ). وتحتاج إلى تقنية شعرية لغوية لها القدرة على الصياغة الذهنية والإبداعية التي تستند الى رؤية ودلالة ذات تكوين سايكولوجي .
لقد أعطى الشاعر والناقد "أدونيس" تعريفاً للغة الشعرية حين قال:( إذا كان الشعر تجاوزاً للظواهر ومواجهة للحقيقة الباطنة في شيء ما أو في العالم كله، فإن على اللغة أن تحيد عن معناها العادي.. إن لغة الشعر هي لغة الإشارة في حين أن اللغة العادية هي لغة الإيضاح..) د.عبد الملك مرتاض، تجليات الحداثة، مجلة، ص4/ع96 . فالنص الذهني هو نص عابر لحواجز اللغة المعجمية معتمد على سعة ثقافة الشاعر، وإمكانياته الإبداعية والشعرية في إستخدام تقنيات لغوية وجمالية لها دلالاتها، مثلت بؤرة أرتكاز في كتابة النص .
فالشاعر المبدع له القدرة على تحويل الصورة الشعرية إلى حالة أدراك ومعنى، وهذا يخضع الى التركيبة الشخصية والنفسية للشاعر المتجذرة في وعيه، حيث يمزج (الوعي) بـ(اللاوعي)، فالصورة عنده تعطي صياغة جمالية إذ بواسطتها يمكن أستنطاق المعاني الذهنية الكامنة فيها، لأن في تكوينها عابرة للحرفية المعجمية، في أخفاء بعض جوانبها في لحظة تأمل قد يكتشف القارئ ما خفي من معنى فيها . وهذا مصداق ما ذهب اليه عالم النفس "سيجموند فرويد" حين كتب عن العقل الباطن أو اللاوعي، كفهم خاص للعقل الباطن أو اللاوعي حين عده بـ(تأمل الإنسان لنفسه وعقله) . فهو يؤكد على أن (اللاوعي واقعٌ ديناميكيٌ مكونٌ من محتويات الإنسان النفسية المكبوتة)، وجانب مخفي في الإنسان، وأن الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا تفسر من الوعي، لأن منبعها دوافع لا شعورية ولا واعية.
فالنص الذهني قد يكون رمزاً باطنياً أفتراضياً، يمثل واقع خارجي، نابع من تأملات العقل الباطن واللاوعي للشاعر، لانه يعمل دون أن يُشعر به، وينبغي أن يكون بعيد عن
المباشرة والتقريرية، لأنهما تقضيان على روح الشعر، وتجعل من النص قالب جاف . إذاً النص الذهني، نتاج عملية أستغراقية متولدة من أفكار ورؤى إبداعية في مخيلة الشاعر يشكل بها عالم من الجمال الشعري في أنتاج الصورة، يتجاوز بها حدود اللغة في كتابة النص الى حدود الرؤى التأويلية والفلسفية.
فالصورة ليست مجرد أداة لتزيين اللفظ وتوضيح المعنى، بل هي ( وحدة تعبيرية تجسد قصد الذهن بكثافة)، وأبراز حالة نفسية معينة للشاعر إزاء موقف معين في الحياة، فهي تعد من أبرز الأدوات المستخدمة من قبله في بناء نصوصه، والاداة التي يعبر بها عن أفكاره وتصوراته، فكان للشعراء المحدثين الأهتمام الواسع بها، فشكلت علامة فارقة في نصوصهم الشعرية، هي (لا تهدف إلى أن تقرب دلالتها من فهمنا، ولكنّها تسهم في خلق إدراك متميز للشيء، أي أنّها تخلق رؤية ولا تقدم معرفة)، أحمد يوسف،القراءة النسقية، سلطة البنية ووهم المحايثة،ص9 . في حين يرى جان كوهن أن (وظيفة الصورة هي التكثيف، فالشعرية هي تكثيفية اللغة، والكلمة الشعرية لا تُغير محتوى المعنى وإنّما تُغير شكله). جان كوهن، اللغة العليا، النظرية الشعرية، ترجمة:أحمد درويش، ص145، فالصورة هي المفتاح الذي يستطيع الناقد أو الدارس أن يفتح به مغاليق النص الشعري، ويلج إلى عوالمه الغامضة. فالذي (يعطي الصورة فاعليتها ليس حيويتها كصورة بقدر ميزتها كحادثة ذهنية ترتبط نوعياً بالإحساس) د. علي البطل، الصورة في الشعر العربي/ حتى آخر القرن الثاني الهجري، ص٢٧ .
وفق هذه الأطر والمفاهيم التي ذُكرت في المقدمة، تمكن الشاعر "علاء الدين الحمداني"من إثارة المتلقي في ديوانه البكر الذي حمل عنوان (زغبٌ ويطير)، ابتداءً بعتبة الديوان (العنوان) وهو مطلب أي شاعر عندما يكون العنوان هاجسه، لأنه يفتح بوابة الديوان من منظور سيميولوجي، فيشكل حضوراً ذهنياً غرائبياً إبداعياً، يترجم كينونة الشاعر وأنفعالاته بما يحتويه من دهشة وأنزياح وخيال واسع، يفتح الآفاق لدى المتلقي لقراءات ذات أوجه متعددة، وتنوع في رؤاه، وهذه ميزة جمالية في بنية نصوص الشاعر "علاء الدين الحمداني"، وقدرته على إيقاظ ذهن القارئ بالأنتقال من المألوف الى غير المألوف، يستفز ذهن القارئ، فيثير أحاسيس وأفكار ومعاني وتصورات، يعتمد الأستخدام الواسع للمجاز والخروج عن المألوف، في عملية توافقية بين خطابه الشعري وتقنية الصورة الذهنية، لأنه يريد أن يوجد حالة مغايرة في وضع عنوان يناقض ويغاير حقيقة طبيعة الأشياء، يعطي به دلالة فنية، لا دلالة حقيقية، وهذه مفارقة أن تجتمع المتناقضات، والأنزياح فيه، فتمنح العنوان رمزية ودلالة تعبر عن رؤيته. كذلك عنوان الديوان من العناوين الفرعية، جعله الشاعر مركز أستقطاب دلالي في المجموعة الشعرية، وهذا يعني أن مرجعية العنوان الرئيسي للمجموعة هي مرجعية النص الشعري ضمن نصوص أخرى، فعنوان (زغبٌ ويطير) جسد صورة إطارية مكثفة وممهدة للنص وهذا التكثيف في الصورة يصب في تنوع عتبات نصوص الديوان الأخرى، التي شكلت إيقونات بصرية ذهنية دالة على مضمون النص الشعري.
نصوص الشاعر"علاء الدين الحمداني" تعبر عن أغتراب وتمرد وتقوقع حول الذات، فهو يبحث عن ذاته في ظل فوضوية القيم السائدة المئدلجة، فهناك أنفعالات أو بؤر دلالية، خفية تتكئ عليها بنية الصورة الفنية الذهنية في داخل النص، نراه ينقب في ذاكرته بأعتماد أسلوب أسترجاع أطوار من حياته لتشكيل صوره الشعرية . فهو وظب موروثه الذي تختزنه الذاكرته، ليشكل رؤية تتناسب مع حاضره، فهناك زمن شعري يتشكل في صورته الذهنية يتنقل به بين أروقة الماضي والحاضر، هذا الزمن شكل محور مهم في عملية الإيحاء الشعري له، حين تجاوز به الأسلوب النمطي في صياغة الجملة الشعرية وأستخدام التعابير الإيحائية في تكوين أطر النص وبواطنه، وتصوير تأملاته الذهنية والعقلية وهواجسه وفق نسق شعري مثير للدهشة.
ديوان الشاعر "علاء الدين الحمداني" (زغبٌ ويطير) تجربة شعرية عميقة تدل على شاعرية الشاعر تستحق أن يقف عندها الناقد ويتأمل صياغاتها الشعرية وصورها، حيث أمتازت نصوصه بتعدد الصور وتكثيفها. فشكلت هذه النصوص فضاءً شعرياً أنفتح على صور ذهنية  مكثفة، التي كشفت عن مدى قدرة الشاعر على خلق معاني يمكن أن يمسك بها من خلال فعل القراءة المعمقة له . فهو ينتقي ويقتني الكلمات المكتنزة بالإيحاء، ذات الدلالات التي تلامس مدارك الحس مستعين بلغة التكثيف والأختزال، التي تحتاج من المتلقي التأمل والأدراك حتى يتمكن من تفكيك مغاليق النص . فالشاعر"الحمداني" يحرك التراكم المعرفي والباطني فيه من أجل خلق فهم جديد للنص الشعري، ينقل القارئ في قراءته من الحالة (الستاتيكية) السكونية الى (ديناميكية) متحركة تبعث الحركة في النص نحو أحتمالات وتأويلات يرتقي فيها الى مستوى يقترب من المحتوى الصوفي في الكشف عن جوهر النص ضمن الإطار العام له .
فيبلغ  في تصوراته آفاق ما ورائية ذات منطق دلالي في صياغة الجملة الشعرية خارج مديات اللغة المعجمية والتحرر من تبعاتها وإيجاد أشكال تعبيرية وصور شعرية في وضع المفردة في سياقها الشعري، يخترق بها سكونية اللغة والتلاعب في مدلولاتها، كاشفاً عن مقوماته اللغوية وقدرته الإبداعية في أخراج اللغة من محتواها الحقيقي الى محتوى مجازي أبداعي، لايتوقف عند الوظيفة اللغوية أو المعجمية للكلمات في تكوين صوره الفنية، بل يستند الى بنية النص الشعرية، يعبر بها عن المعاني التي تختلج في نفسه، لأن (النص ينبثق من ذات واعية، مدركة لخصائص وجود اللغة، واقعية التصور والاحداث، لها القدرة على التفعيل، والتركيب، والتحليل) حواضر في فلسفة النص / محمد شنيشل الربيعي .
أن اللغة الشعرية عند الشاعر "علاء الدين الحمداني" (ليست لغة معجمية، لأن الدلالة المعجمية لا يمكنها أن تمد الشعر بالإبداع، لأنها ساكنة مقيمة والشعر يظل على سفر، تقتله السكونية وتشعله حركية الوهج الإبداعي)، يتجاوز سكونية اللغة ووظيفتها التقليدية والمعجمية، نجد في نصوصه الصورة الشعرية الدالة على سعة الخيال مبتعداً عن التقريرية والمباشرة، في أشتغالاته على هذه الصورة، فهو لا يهدف إلى مطابقة الواقع بما يدل عليه من تعبيرات إنه (يستعمل الصور ليعبر عن حالات غامضة لا يستطاع بلوغها مباشرة أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقة لما يجده الشاعر) مصطفى ناصف ، الصورة الأدبية، ص217 . وهذا يعني أن الشاعر تحرر من معجمية اللغة الى لغة أكثر حداثة تعطي بنية جديدة للنص الشعري، (فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور، لا التصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة في وصفها ) النقد الأدبي الحديث ، ص376. قد يرى البعض أن لغة الشاعر "علاء الدين الحمداني" غير مألوفة وتنهك المتلقي ذهنياً، لأنها تأتي مكثفة ومشبعة بالإيحاء، وذات دلالة مرتبطة بمدلول ذهني، وهذا يدلل على إبداعه وموهبته في أخضاع اللغة لمشيئته، لكن القارئ الذي يمتلك الذائقة الأدبية أو الشعرية قادر على فتح مغاليق النص وأختراق حجبه والإحاطة بكل معانيه .

جزء من النص (زغب ويطير) ص 44

بين همسِ الاكتواءِ
وطعمٍ ربانّي لم يوجد بعدُ
ناديان ك ورقِ الوردِ
لو بلَّلَتْهُ نداوةُ الغبشِ
ساهمان كالوسنِ يداهمُ الجفونَ
كالشفقِ سرّحَ الضياءُ
حمرتَهُ للغروبِ..
يمامتان من زغبٍ تحتدمان
ترفرفان في اشتهاءٍ
لتعانقا السماءَ
يطيرُ بجناحي
نسرٍ
لهما تلهفي
أحتويهما فأغيبُ
يندلقُ الولهُ
كلُّه فتونا
يينعُ الدُراقُ
على دالياتٍ ثِقالٍ
تفترشُ خمرةَ عتاقٍ
تكتظُ... لتوحدَّ الانفاسَ
في ارتعاشاتٍ وخشوعٍ مهيبٍ
نحلّقُ باطيافٍ من جناحٍ
خفقُه يشقُّ عنانَ الرغبةِ
الزغبُ لم يزلْ
بالكاد يطيرُ
في سُكرةِ الانتشاءِ.
-----------------
              
جزء من النص (نشيج الكاس) ص 7

فُوهةٌ فاغرةٌ
كأسٌ مترعةٌ
تندلقُ ..
يقترُها برتابةٍ ..
وحشةٌ ...عيونُ العوزِ
يَنفذَ القطرُ
عواءٌ موصدٌ
مخبوءٌ
يختنقُ بآخِر وشالةٍ
معتقةٍ من سالفِ الحكايا ..
عويلُ الروحِ موجعٌ
لِآخرِ نبضٍ في الكأسِ
النشيجُ باقٍ ..
يستنفرُ الظلَّ ..خَلَفَهُ الليلُ
بقايا ضوءٍ من ضبابِ الرمادِ
يتسللُ المواربُ
دونَ خلسةٍ
باهتُ الملامحِ
موغلٌ في ذاكرةِ الريحِ
تصطكُ بصريرٍ ...
ثناياه ... مترهلةً...
تَعُبُ آخرُ القعرِ .
المنبوذُ المتجهمُ...
صاحبُ الزُق
يبيعُني نهرَ خمرٍ
قد ختمَها من وشالةِ العمرِ
أعبُّهُ وجَعِي
هو مَنْ يثملني .
-----------------
                              
جزء من نص(إكتراث ما) ص 48

مددتُ أصابعَ مخيلتي
أطحتُ به .. هذا ما يخيّلُ لي
الجدارُ عالٍ
كلّما أرغبُ أجتياحَهُ
يتفتتُ كالضبابِ
لا أعلمُ كنهَهُ
أعودُ لأسفلِ الأجتياحِ
بينَ ركامِ أفكارٍ مجنونةٍ
حيث وِلِدَ السقمُ بأصابعَ شتىً ..
ونصفِ فمٍ وربّما .. انفٍ معقوفٍ ..
ورأسين ..
أحداهما مستاءٌ
والأخرَ مستاءً كثيراً ..
نعم ...
متناقضان في الإستياءِ
يفي بالغرضِ ...
لو أفقأُ عيونَ الوهنِ
أٌشَتِتُ عنجهيةَ الفكرِ
أتركُ مساحةً وسعَ أبتسامةِ طفلٍ
تتسيدني لبرهةٍ ..
كي أتنفسَ
أهوي بهذا الاكتراثِ اللعينِ
وإن طَوّحَ بِي
لدي بقايا عقلٍ
يكفي ويزيدُّ أنْ اقتاتَ بهِ
جنونَ الأخرين .                     
-----------------

جزء من نص ( زوايا العتم ) ص 12

أراهُ يستبيحُ
   تَألهي ..
فأضربُهُ بالفلقِ
عَلَهُ يرعَوي
يَرتكنُ... بفكِهِ المعوَجِ
الّوِّحَ لهُ.. إنَّ مكانكَ
في غورِ العُتمِ
أيُّها السَقيمُ المنبوذُ
أخرجْ مِن بَقاياي
يَشرَئبُّ مُتوارياً بينَ الجدرانِ
يُزاحمُ ثُقبَ الدودِ في الزوايا الخَرباتِ
يأتزرُ بقيةَ حُزمٍ من ظلامٍ
تنزُ مَنْ فيهِ تمتمات
يساومني أنْ اكتبَ تداعياتٍ
من امسٍ ليسَ ببعيدٍ
لنّْ أجاريَكَ
فانا لي وحدي..
عقلي أستَرحْ..
ما زلتُ أملكني
ولَم تَزلْ همساتِي
رفيفَ فراشةٍ
تُداعبُ عيوني..
إنزوي... لا مجالَ
لاستباحةِ شاعرٍ طهور
يلوذ بالنورِ... شيطانٌ شِعرُهُ .
-----------------

جزء من نص (يومٌ أخر) ص 23

فرو الياقةِ وثيرٌ
يشبهُ قطيَ الأشهبَ العجوزَ
في الركنِ الدافئ ملاذهُ
يتوسَّدُ فردةَ من حذائي العتيدِ
ذياكَ الخيطُ لم يزلْ
يَعلَقُ داخلَ جيبي
كلّما مددتُ يدي
أجدُهُ في عتمةِ الدهليزِ
الفارغِ على الدوامِ
أذكرُ في يومٍ نحسٍ ما
منذ عامٍ
قطعتُهُ وحزنتُ ..
مخذولةً سبابتي والأبهامِ
تعوّدتُ انْ أُماحَكَ ذياك
الخيطَ الواهنَ
في أيامِ القحطِ الشديدةِ
وعدتُ نفسِي مراراً
أنْ أُلبِسَها ما يُليقُ
أو أصنعَ لها قبعةً
من جلدِ الأشهبِ العجوزِ ..
لعلني يوماً ما.. اشتري معطفاً
خوفي أنْ يكون بلا خيطٍ
لا ضيرَ ...
نسجُ مخيلتي الفُ خيطٍ
أو ربّما أدعي الجنونَ
---------------

جزء من نص (وهن الانتظار) ص 15

تمضينَ
باقٍ أنا
الوقتُ لن يقفَ
ساعةُ الجدارِ تُشيرُ...
الى مدِّ بحرٍ ونيفٍ
يدعوني للسأمِ
عقربُها القزمُ
قد أَهدمُ الجدارَ
تَشَفياً ..
هذا ما يُخيل لي
جدار بلا ساعة
سأكون عابثاً بالأنتظار
تأتين أم لا تأتين
كلّ ما في الأمر
أني ألغيتُ الوقتَ
تتلاشين مع كلِّ جُزُر
يمضي ألى القاعِ..
كم هي مريبةٌ...الأوقاتُ
الأكثرُ ريبةً منها ...أنا
تَذَكرتُ...منذ عقود
متوقفةٌ بلا حياةٍ
ساعةُ حائطنا المتهالكِ
أو بالأحرى
لا جدارَ هناك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق