بعنوان (وأعلنت الرحيل)..
وأعلنتْ الرحيل..
قالت: تغولت المدينة..
وأبي يخاف على بنيه.
بات لساني كغصنٍ حط عليه الخريف..
كل شيءٍ بات معجوناً بالضباب..
تساقطتُ على بعضي مراراً
دون أن أشكلني..
أردت إمساك ذراعها
لكنها بدت طيفية التكوين..
على كرسي الحديقة اتسعت بيننا المسافة
وللمرة الأولى شعرت بالفراغ الكبير
الذي يفصل بين قضبان الكرسي الخشبية
قضبانه تباعدت
كسككٍ لقطارات مُعدّة للهاربين،
لا تُسأل عن وجهتها..
العنادل تكلست على الأشجار..
أضحت كالأصداف،
يسكنها صداً يؤرِّقني
كل صوتٍ يصل أذنيَّ يُنبي بالرحيل
وكل جهة يهب منها الهواء
تريد أن تدفعني عنها..
أردت الصراخ..
أردت أن أرفع صوتي كي تسمعني..
شعرت أن داخلي موتاً يشربني..
يحتسي الكلمات من كأس حنجرتي..
شرب لوني، شرب نبضي..
شرب الدنيا وتقيأها
غير دنيا
لا.. لا ترحلي..
لم تسمعني أذناها..
بدت شلالات شعرها صاخبة ً
أذناها كعذراوين دنسهما المحتوم
تغتسلان وتغتسلان
ليستا تأبهان بتخلخلٍ للهواء حولهما..
دنت مني..
دنت بوجهها المثقل بعينيها الحزينة..
سكبت ليل شعرها على ذراعي...
وغيبت بدر الوجه خلف انهمار الليل..
آهٍ يا موج الخُصلات..
كانت يدي بحاراً
يعرف تفاصيل ذاك البحر..
واليوم..
اليوم تغرق..
انتفضتُ..
حاولت أناملي
أن تذوق طعم الليل في شعرها..
خصلاتها تتدفق تنساب بعيداً
من بين أصابعي كما الرمال..
أشرق وجهها حزيناً كشمس المغيب..
ثم غاب وانطفأ خلف أفقٍ من دمعٍ
رجَّ الوجودَ في عيني..
آهٍ من الوداع..
فلتحترق جميع النوارس
فلتهطل مطراً من مناقير
على جميع الأشرعة
فلتخترق جماجم جميع البحارة..
كم اتسع قلبي بكِ..
وكم تمزق لكِ..
ليتني ياسمينة تعرش عليكِ..
ليتني فراشة تختبئ بين سنابل ضفائركِ..
تلك الضفائر التي تعدو أصابعي بينها
كأطفالٍ أشقياءٍ، كل حُلم..
ليتني فراشة تنام في سرير نهديكِ..
فيعجز أن ينتشلني الفُراق..
كلما فتحتُ نافذةً
وجدتُ جدار الذكريات..
كل الدروب تتشابك تتشابهُ..
لا تفضي إلى مكان..
لا تفضي إلى ما كان..
ألفٌ صباح ٍ ولم أرَ قعر فنجان قهوتي..
كيف أشربُ كل هذه الذكريات!!
الزمان يتدفق كنهرٍ وأنا مرميٌّ فيه كدالية
مازالت إحدى سواعدها تتشبث بالأرض..
-أعلنتْ الرحيل-
الأسى طوفانٌ يهز مقعد الحديقة..
آهٍ يا قاربي الصغير في رحلتي الجميلة..
آهٍ يا سريراً فوق الحُلم
كم جلسنا هاهنا نضحك ونشدو
نفك قميص الليل نجمة ً نجمة
كم من مرة توجتني مَلكاً للكون
كم بدت حكاياتكِ الصغيرة
شهرزادية الملامح..
وكم بدت بحيرة عينيكِ
ذات بدرٍ كوثري اللون
والنخلة الصغيرة بجانبي
كزنجي مجتهد
يحمل عشرات المراوح..
كم كنت تائهاً بين سندباديتي وشهرياريتي،
حازماً بأوامري
-اقطعوا رأس الوقت-
فوحدها عقارب الساعة
تلدغ سماء العاشقين
آهٍ يا قضبان المقعد الخشبية..
كم ارتمينا عليكِ حين ضجَّ الحُب فينا
كعصفورين..
كنغمتين على سطور نوتة..
ألم تنقلي رغم أنكِ خشبية
كهرباء قلبينا حتى توهجت المُقل
والآن يا مقعدي..
يا سجني، خشبي القضبان
تتشكل في خواتيم الذكريات
صليباً في جمجمتي تذبل حوله العصافير
آهٍ يا كلَّ القلوب الصغيرة
التي تخيلناها لمواليدنا
آهٍ كم حلُمنا..
أذني وأذنها على صدر الوليد
كشق محارةٍ يحنو على لؤلُؤته
والقلب الصغير يصغي عبرهما
لبحر الوجود
أتذكرنا أيها البحر..؟
حين وسدتها ذراعي،
ورميت فوقنا شراشفك
أتذكر حين قالت:
وجه البحر كوجه السماء
لا نرى منهما سوى عينين زرقاوين
يا ليل.. يا ليلُ
أتذكر كيف طعناك
بكل ما أوتينا من شموع
هل تذكر كم بحثنا
عن جيوب معطفك
كي ننزوي فيها
ونتحدث عن اللاكلمات
واليوم لست أدري
أطال الحديث بيني وبين الأمل..
فالساعةُ على معصمي مُقلة بيضاء
لا أدري أأنا أحدق بها
أم هي تحدق بي..
آهٍ يا شقتنا الوديعة المُنتظرة
كم رسمنا لكِ من تفاصيل
وكم نبتت بينها الضحكات
آهٍ يا تلك الشرفة..
كم سكبنا فيكِ، كل الحدائق
حين ضجَّ بنا الخيال
كم غدوتِ الآن عالية
تحيكين تنورة من سحاب
وتصعدين..
تصعدين..
تباً لكِ يا شرفة البيت
تباً لكِ
اصعدي اغربي
هيا ارتفعي عالياً في السماء
كوني كما تشائين
كوني منفضة سجائر للقدر
دعيني وحدي هاهنا
تدوسني أقدامُ الأيام
كلما دنوت من الواقع
دفعني بذراعيه القويتين
نحو جدار الذكريات..
دس يده في جفني..
وسرق مني دمعتين..
وتركني.
قابعٌ في غرفتي مُجنحٌ بالنافذة..
آهٍ يا هلال الليل..
آهٍ أيها الليل.. يا أيها الليل..
كم أنت حَجريُّ الشِفاه!!
-أعلنتْ الرحيل.. أعلنتْ الرحيل-
وليس ترحل..
فرشت موج شعرها على ذراعي
غرقت يدي في بحر الخصلات
حتى الموت ، حتى اليباس
كانت يدي تجيد السباحة!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق