الخميس، 16 أبريل 2020

مجلة ملتقى الشعراءوالأدباء...وأعلنت ‏الرحيل...بقلم ‏المتالق ‏والمبدع ‏سامر ‏منصور

بعنوان (وأعلنت الرحيل)..

وأعلنتْ الرحيل..
قالت: تغولت المدينة..‏
وأبي يخاف على بنيه.‏
بات لساني كغصنٍ حط عليه الخريف..‏
كل شيءٍ بات معجوناً بالضباب..‏
تساقطتُ على بعضي مراراً‏
دون أن أشكلني..‏
أردت إمساك ذراعها‏
لكنها بدت طيفية التكوين..‏
على كرسي الحديقة اتسعت بيننا المسافة‏
وللمرة الأولى شعرت بالفراغ الكبير‏
الذي يفصل بين قضبان الكرسي الخشبية‏
قضبانه تباعدت‏
كسككٍ لقطارات مُعدّة للهاربين،‏ 
لا تُسأل عن وجهتها..‏
العنادل تكلست على الأشجار..‏
أضحت كالأصداف،‏
يسكنها صداً يؤرِّقني‏
كل صوتٍ يصل أذنيَّ يُنبي بالرحيل‏
وكل جهة يهب منها الهواء‏
تريد أن تدفعني عنها..‏
أردت الصراخ..‏
أردت أن أرفع صوتي كي تسمعني..‏
شعرت أن داخلي موتاً يشربني..‏
يحتسي الكلمات من كأس حنجرتي..‏ 
شرب لوني، شرب نبضي..‏
شرب الدنيا وتقيأها‏
غير دنيا‏
لا.. لا ترحلي..‏
لم تسمعني أذناها..‏
بدت شلالات شعرها صاخبة ً‏
أذناها كعذراوين دنسهما المحتوم‏
تغتسلان وتغتسلان‏
ليستا تأبهان بتخلخلٍ للهواء حولهما..‏
دنت مني..‏ 
دنت بوجهها المثقل بعينيها الحزينة..‏
سكبت ليل شعرها على ذراعي...‏
وغيبت بدر الوجه خلف انهمار الليل..‏
آهٍ يا موج الخُصلات..‏
كانت يدي بحاراً‏
يعرف تفاصيل ذاك البحر..‏
واليوم..‏
اليوم تغرق..‏
انتفضتُ..‏
حاولت أناملي‏
أن تذوق طعم الليل في شعرها..‏
خصلاتها تتدفق تنساب بعيداً‏
من بين أصابعي كما الرمال..‏
أشرق وجهها حزيناً كشمس المغيب..‏
ثم غاب وانطفأ خلف أفقٍ من دمعٍ‏ 
رجَّ الوجودَ في عيني..‏
آهٍ من الوداع..‏
فلتحترق جميع النوارس‏
فلتهطل مطراً من مناقير‏
على جميع الأشرعة‏
فلتخترق جماجم جميع البحارة..‏
كم اتسع قلبي بكِ..‏
وكم تمزق لكِ..‏
ليتني ياسمينة تعرش عليكِ..‏
ليتني فراشة تختبئ بين سنابل ضفائركِ..‏
تلك الضفائر التي تعدو أصابعي بينها‏
كأطفالٍ أشقياءٍ، كل حُلم..‏
ليتني فراشة تنام في سرير نهديكِ..‏
فيعجز أن ينتشلني الفُراق..‏ 
كلما فتحتُ نافذةً‏
وجدتُ جدار الذكريات..‏
كل الدروب تتشابك تتشابهُ..‏
لا تفضي إلى مكان..‏
لا تفضي إلى ما كان..‏
ألفٌ صباح ٍ ولم أرَ قعر فنجان قهوتي..‏
كيف أشربُ كل هذه الذكريات!!‏
الزمان يتدفق كنهرٍ وأنا مرميٌّ فيه كدالية‏
مازالت إحدى سواعدها تتشبث بالأرض..‏
-أعلنتْ الرحيل-‏
الأسى طوفانٌ يهز مقعد الحديقة..‏
آهٍ يا قاربي الصغير في رحلتي الجميلة..‏
آهٍ يا سريراً فوق الحُلم‏
كم جلسنا هاهنا نضحك ونشدو‏
نفك قميص الليل نجمة ً نجمة‏
كم من مرة توجتني مَلكاً للكون‏ 
كم بدت حكاياتكِ الصغيرة‏
شهرزادية الملامح..‏
وكم بدت بحيرة عينيكِ‏
ذات بدرٍ كوثري اللون‏
والنخلة الصغيرة بجانبي‏
كزنجي مجتهد‏
يحمل عشرات المراوح..‏
كم كنت تائهاً بين سندباديتي وشهرياريتي،‏
حازماً بأوامري‏
-اقطعوا رأس الوقت-‏
فوحدها عقارب الساعة‏
تلدغ سماء العاشقين‏ 
آهٍ يا قضبان المقعد الخشبية..‏
كم ارتمينا عليكِ حين ضجَّ الحُب فينا‏
كعصفورين..‏
كنغمتين على سطور نوتة..‏
ألم تنقلي رغم أنكِ خشبية‏
كهرباء قلبينا حتى توهجت المُقل‏
والآن يا مقعدي..‏
يا سجني، خشبي القضبان‏
تتشكل في خواتيم الذكريات‏
صليباً في جمجمتي تذبل حوله العصافير‏
آهٍ يا كلَّ القلوب الصغيرة‏
التي تخيلناها لمواليدنا‏
آهٍ كم حلُمنا..‏ 
أذني وأذنها على صدر الوليد‏
كشق محارةٍ يحنو على لؤلُؤته‏
والقلب الصغير يصغي عبرهما‏
لبحر الوجود ‏
أتذكرنا أيها البحر..؟‏
حين وسدتها ذراعي،‏
ورميت فوقنا شراشفك‏
أتذكر حين قالت:‏
وجه البحر كوجه السماء‏
لا نرى منهما سوى عينين زرقاوين‏
يا ليل.. يا ليلُ‏
أتذكر كيف طعناك‏
بكل ما أوتينا من شموع‏
هل تذكر كم بحثنا‏ 
عن جيوب معطفك‏
كي ننزوي فيها‏
ونتحدث عن اللاكلمات‏
واليوم لست أدري‏
أطال الحديث بيني وبين الأمل..‏
فالساعةُ على معصمي مُقلة بيضاء‏
لا أدري أأنا أحدق بها‏
أم هي تحدق بي..‏
آهٍ يا شقتنا الوديعة المُنتظرة‏
كم رسمنا لكِ من تفاصيل‏
وكم نبتت بينها الضحكات‏
آهٍ يا تلك الشرفة..‏
كم سكبنا فيكِ، كل الحدائق‏ 
حين ضجَّ بنا الخيال‏
كم غدوتِ الآن عالية‏
تحيكين تنورة من سحاب‏
وتصعدين..‏
تصعدين..‏
تباً لكِ يا شرفة البيت‏
تباً لكِ‏
اصعدي اغربي‏
هيا ارتفعي عالياً في السماء‏ 
كوني كما تشائين‏
كوني منفضة سجائر للقدر‏
دعيني وحدي هاهنا‏
تدوسني أقدامُ الأيام‏
كلما دنوت من الواقع‏
دفعني بذراعيه القويتين‏
نحو جدار الذكريات..‏
دس يده في جفني..‏
وسرق مني دمعتين..‏
وتركني.‏
قابعٌ في غرفتي مُجنحٌ بالنافذة..‏
آهٍ يا هلال الليل..‏
آهٍ أيها الليل.. يا أيها الليل..‏ 
كم أنت حَجريُّ الشِفاه!!‏
-أعلنتْ الرحيل.. أعلنتْ الرحيل-‏
وليس ترحل..‏
فرشت موج شعرها على ذراعي‏
غرقت يدي في بحر الخصلات‏
حتى الموت ، حتى اليباس‏
كانت يدي تجيد السباحة!!‏
يدي الآن.. كتشابك ألف مرساةٍ قديمة‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق